10-سبتمبر-2019

كان جنينًا لا يتجاوز عمره في رحم أمه السبعة شهور، ولم يكن بعدُ يحمل اسمًا حين اعترضت والدته طريقي، وطلبت مني نسخة الشريط التلفزيوني الذي صوَّرتُهُ لزوجها، وهو يخضع لعمليةٍ جراحيةٍ في أحد مستشفيات مدينة نابلس بعد إصابته برصاص الجنود الإسرائيليين. أوفيت في اليوم الثاني بوعدي لها، وزودتها بما التقطت عدستي.

كان علي أن أنفرد ببعض لقطات الحادث، خاصةً أن الأمر ليس يسيرًا، ولا يستطيع أحدٌ الوصول إلى المستشفى فهو محاصرٌ وأرتالٌ من الجنود تقف على بابه وجوانبه

حدثت القصة في الخامس من شهر نيسان/إبريل 1990، وكنت حينها أعمل مصورًا في إحدى وكالات التلفزة العالمية، وكنت أمارس عملي في تغطية بعض أحداث الانتفاضة الأولى في مدينة نابلس. تلقيت اتصالاً يشير إلى أن أحد المواطنين هاجم إحدى نقاط قوات الاحتلال الإسرائيلي بشاحنته وأصاب بعض الجنود، فأطلقوا عليه النار وأُصيب بجروح خطيرة، وتم نقله إلى مستشفى الاتحاد النسائي في مدينة نابلس، دون أن تتوفر أية معلومات عن وضعه الصحي، فيما المستشفى محاصرٌ بمئات الجنود، ولا أحد يعلم ما يجري بداخله.

اقرأ/ي أيضًا: "قول يا طير".. النكبة بصورة مختلفة

كان يتوجب علي التحرك فورًا في تلك اللحظة بمساعدة بعض السكان المحليين، وأن أنفرد ببعض لقطات الحادث، خاصةً أن الأمر ليس يسيرًا، ولا يستطيع أحدٌ الوصول إلى المستشفى فهو محاصرٌ بشدة، وأرتالٌ من الجنود تقف على بابه وجوانبه.

أشار عليَّ أحد السكان العليمين بخبايا المنطقة بأن أتسلل لداخل المستشفى، وتمكنت في غفلةٍ من الوقت أن أتسلل من الباب الخلفي إلى المستشفى دون أن يتمكن أيٌ من الجنود من رؤيتي، ووصلتُ إلى أحد الأطراف الداخلية في المستشفى، وعلمت من طاقمه أن الشخص المصاب موجودٌ داخل غرفة العمليات، وأن الغرفة محاصرة بعشرات الجنود، ولا يمكن لأحد دخول الغرفة أو الخروج منها إلا الطاقم الطبي بعد إجراءات معقدة، فقررت على الفور خوض المغامرة مهما كان ثمنها.

طلبت من ممرضةٍ أن تزودني بمريول طبيب وارتديته، وطلبت منها أن تخفي كاميرتي الصغيرة في علبة الشاش المعقم بعد أن لفَّتها جيدًا، ووضعناها أسفل العلبة وغطيناها جيدًا، ثم رتبنا الشاش فوقها بشكل منظم، ووضعناها على عربةٍ تحمل معدات طبية، وتوجهنا بثقةٍ إلى غرفة العمليات. أوقفنا الجنود الواقفون على مدخل باب غرفة العمليات، قلت لهم لا وقت لدينا ويجب أن ندخل غرفة العمليات فورًا، فطلبوا فتح العلبة التي أخفينا بداخلها الكاميرا، فتحناها بثقةٍ ولم يظهر داخلها سوى شاش، فسمحوا لنا بالدخول، وأغلقوا خلفنا الباب، حيث لا يوجد داخل الغرفة سوى المصاب وطاقمه الطبي.

انتزعت كاميرتي الصغيرة، وبدأت بتصوير العملية الجراحية وما يجري داخل غرفة العمليات لأكثر من ساعتين، والتقطتُّ صورًا متنوعة من داخل الغرفة إلى أن انتهت العملية الجراحية بنجاح، وتقرر إخراج المصاب من غرفة العمليات.

لقطة من داخل غرفة العمليات بعدسة ماجد عاروري

كان الجنود على الباب بانتظار المصاب، فاعتقلوه من باب غرفة العمليات. التقطتُّ مشهد نقله إلى خارج المستشفى، وما أن غادر الجنود الممر حتى بحثت عن زاويةٍ تمكنني من تصوير مشهد تحميله وهو على عربة العمليات بسيارة إسعاف عسكرية، محاطًا بعددٍ هائلٍ من الجنود، قبل أن يغادروا المستشفى والجريح المعتقل مازال بحالة حرجة.

قالت لي أنا حامل ولا أعرف إن كان زوجي سيبقى حيًا أم لا، وأريد أن أحتفظ بهذا الشريط ليراه ابني بعد مولده

أثناء خروجي من المستشفى أوقفتني سيدة كانت على ما يبدو حامل، وطلبت مني تزويدها بنسخة من الشريط الذي صورته. قالت لي "أنا حامل ولا أعرف إن كان زوجي سيبقى حيًا أم لا، وأريد أن أحتفظ بهذا الشريط ليراه ابني بعد مولده، فقد لا يرى والده بعد اليوم". تعاطفت مع دموعها وقررت نسخ الشريط قبل إرساله إلى مكان عملي، وفعلت ذلك فور عودتي إلى مدينة رام الله، واستفسرت عن عنوانهم واسم المصاب، فأخبروني أن اسمه سمير الأسطا، وهو من سكان مخيم عسكر.

إلى هنا كان الفصل الأول من الحكاية، ولم أعلم بعد ذلك الحين بما حدث مع المصاب، فقد كنا نعيش كل يوم قصة جديدة، وبقيت باقي فصول القصة مجهولة بالنسبة لي، إلى أن تلقيت في أحد أيام شتاء العام 2018 اتصالاً هاتفيًا من شخصٍ عرّف عن نفسه بأنه أنس الأسطا، وقال لي إنه يرغب بالجلوس معي فحددت معه موعدًا وحضر إلى مكتبي.

قال لي إنس إني صوّرت قبل 28 عامًا شريطًا لرجلٍ مصاب في أحد مستشفيات نابلس، ووثقت عمليته واعتقاله، فقلت له أذكر ذلك، ولكن ما المهم في ذلك الأمر؟ وما هي علاقتك بالموضوع؟ فقال: "أنا ابنه. أنا الجنين الذي كنت في رحم أمي حين طلبت منك الشريط، واسمي أنس الأسطا، وقد أكملت دراستي، وأنشأت مؤسسة لتوثيق الحالات النضالية في الانتفاضة الأولى أسميتها قامات، وأريد أن يكون أول فلم وثائقي أنجزه حول حكاية والدي".

سألته "ما هي أخبار والدك؟ هل بقي على قيد الحياة؟"، فقال نعم لقد سُجِنَ 15 سنة وأُفرِجَ عنه، وسأقوم بتوثيق قصته، الشريط الذي أرسلته لوالدتي ما زلنا نحتفظ به، ونريد أن نسجل معك مقابلة تصف ما جرى في ذلك اليوم. أجريت المقابلة معه، وشعرت بفخرٍ أن هذا العمل الذي قمت به قبل كل هذه السنوات سيكون أساسًا لتوثيق قصةٍ نضاليةٍ يوثقها من كان جنينًا في رحم أمه حين حدثت القصة.

بعد عدة شهور تلقيت دعوة لمشاهدة عرض الفلم في جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، وكان عنوانه " كأنه الآن"، وسررت أن أحد أحداث هذه الانتفاضة قد تم توثيقها، فغالبية الأحداث التي وقعت في فلسطين، خاصة في حقبة الانتفاضة الأولى مرت دون توثيق، وكأننا شعبٌ بلا تاريخ وبلا قيادة، كأننا أيتام العصر.


اقرأ/ي أيضًا: 

16 سنة اعتقال.. تحرر الهاتف وبقي صاحبه بانتظار صفقة تبادل

صور منهوبة تعرض في القدس لأول مرة

مبدعون من فلسطين.. بقعة ضوء