17-نوفمبر-2019

مقال رأي |

في السنوات الأخيرة، أصاب الضعف ذاكرتنا نحن الفلسطينيين، وقد ظهر ذلك في كل الاحتجاجات التي حدثت على أي حالة فساد أو أخطاء فادحة تقع داخل السلطة الفلسطينية، وكذلك في الاحتجاج على إجراءات تُستحدث أو قوانين يتم سنها، وقد راهنت السلطة على هذه الذاكرة القصيرة ونجحت دائمًا في تجاوز أغلب هذه الأزمات دون تقديم تنازلات، إلا في حالاتٍ محددة.

السلطة راهنت على الذاكرة القصيرة للجمهور الفلسطيني فتجاوزت أغلب هذه الأزمات دون تقديم تنازلات، إلا في حالات محددة

يُمكن هنا أن نبدأ السرد على سبيل المثال لا الحصر، من فضيحة الإعفاءات الضريبية التي كشف عنها تحقيق استقصائي لصحيفة العربي الجديد، أظهر إعفاءات ضريبية بملايين الشواكل لمسؤولين في السلطة وحركة فتح، رغم الأزمة المالية الخانقة. سيطرت هذه القصة على أحاديث الناس لأيام دون أن تعلق السلطة على الأمر، ثم انتهى كل شيء بردًا وسلامًا.

اقرأ/ي أيضًا: كم يخجلني حجبكم للمواقع الإلكترونية؟

يُضاف إلى ذلك الاحتجاجات على شركات الاتصالات وأسعار خط النفاذ والانترنت، والفعاليات الداعية لإنهاء الانقسام من حين لآخر، والمسيرات التي تُطالب بإنصاف الضحايا من النساء قانونيًا، والاحتجاجات على القرار بقانون الجرائم الإلكترونية. فيما شكّل قانون الضمان الاجتماعي استثناءً في كل هذه الحالات، لاعتباراتٍ تتعلق بحركة فتح، وليس لتغيير في نهج السلطة الفلسطينية.

قبل شهر، حجبت محكمة الصلح في رام الله، 59 موقعًا صحافيًا وصفحات على السوشال ميديا، فوقعت احتجاجاتٌ جعلت من القرار قضية رأي عام. محكمة الصلح في ردها على طلب موقع الترا فلسطين من خلال الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان ونقابة الصحافيين، رفضت إلغاء قرارها، وأحالت المادة 39 من قانون الجرائم الإلكترونية إلى المحكمة الدستورية للنظر في دستوريته، كونه يخالف القانون الأساسي وفق ما أكده محاميا الهيئة المستقلة والنقابة.

ماذا حدث؟ ثلاثة أسابيع مرت على إحالة القرار للمحكمة الدستورية، والنتيجة لا شيء. لم تنفع دعوة الحكومة إلى إعادة النظر في القرار، ولا تصريحات صائب عريقات لجهاتٍ حقوقيةٍ بأن "الرئيس فوجئ بالقرار، وأن ما حدث خطأ يُمكن تصحيحه". والبلد التي قامت بسرعةٍ قعدت بسرعةٍ أيضًا.

في هذه الحالات لا جلسة عامة تعقدها المحكمة الدستورية ولا مداولات، والمحاميان أحمد نصرة (الهيئة المستقلة) وعلاء فريجات (نقابة الصحافيين) أكدا أن رد المحكمة يجب أن لا يستغرق وقتًا طويلاً. ها نحن نقترب من إتمام شهرٍ على إحالة القرار إلى المحكمة الدستورية لكن لا حس ولا خبر.

ثلاثة أسابيع على إحالة المادة 39 من قانون الجرائم الإلكترونية للمحكمة الدستورية، لكن لا حس ولا خبر، والبلد التي قامت بسرعة قعدت بسرعة أيضًا

تُساهم الأحداث الساخنة في تمرير ما تريده السلطة بأن ينسى الناس. فأمام العدوان على قطاع غزة وارتقاء 34 شهيدًا في يومين فقط، بينهم أطفالٌ وامرأة وقياديٌ عسكريٌ كبير، يُصبح الحديث عن حجب المواقع أمرًا ثانويًا. لكن ما تجدر الإشارة إليه هنا، أن حجب هذه المواقع أدى -بقرارٍ فلسطينيٍ- إلى حجب جزء من الرواية الإعلامية الفلسطينية التي يتوجب عليها أن تفضح جرائم الاحتلال في قطاع غزة.

اقرأ/ي أيضًا: خطيئة حجب المواقع الإلكترونية

أعقب ذلك، إطلاق الرصاص على الزميل الصحافي معاذ عمارنة خلال عمله الصحافي في الخليل، ما أفقده عينه. ولا شكَّ أن حدثًا من هذا النوع أشدّ وطأة علينا نحن الصحافيين (أصدقاء معاذ وزملاؤه) من قرار حجب المواقع، لكن الحجب أيضًا يُقلل من قدرتنا على فضح الجريمة بحق زميلنا، كما هو الأمر في غزة. وفي الحالتين، هناك حجبٌ للحقيقة التي تُحاول الصحافة قولها، سواءً بالرصاص أو بوسائل تقنية ضعفة.

يدور الحديث الآن عن انتخابات تشريعية ثم رئاسية، فكيف لنا أن نصدق نيّة السلطة فعلاً الذهاب إلى عمليةٍ ديمقراطية ووعودها بأن تحترم نتائج هذه العملية؟ إن لم تكن قادرة على احترام العمل الصحافي، وتقبل مقالات رأي نُشرت ورأت فيها نيابة الجرائم الإلكترونية والنائب العام مساسًا بالأمن القومي والسلم الأهلي!

كيف يُمكن لمن يلاحقون العمل الصحافي ويمنعون وصول الناس للأخبار والتقارير الصحافية ومقالات الرأي، أن يتنازلوا عن الحكم إذا خسروا الانتخابات؟ وكيف يُمكن أن يصدق الناس أنهم يقبلون على تجربة ديمقراطية؟ إذا كانوا يضغطون على رابط تقرير صحافي منشور في "فيسبوك" فتظهر لهم رسالةٌ بأنه لا يُمكن الوصول إلى هذا الموقع!

تُراهن السلطة على انشغال الناس بالأحداث الجسيمة المتلاحقة، ثم بالصراعات الانتخابية، فلا تُضطر إلى إلغاء المادة 39 رغم عدم دستوريتها، لأنها تخالف ما ورد بخصوص المطبوعات والنشر في القانون الأساسي، ولأنها محصنة ويُمنع الطعن فيها، وفق ما أكده المحاميان فريجات ونصرة. هذه المادة التي تتيح حجب أي موقع وملاحقة أي صحافي فقط لأنه نشر مادة صحافية لم تُعجب ما يسميها القانون "جهات الضبط" ولا يحددها، فيما يؤكد حقوقيون أن المقصود بها الأجهزة الأمنية.

أطلق موقع الترا فلسطين رابطًا بديلاً لتجاوز الحجب، كإجراء تقني يتيح لنا ممارسة حقنا القانوني في العمل الصحافي، لكن هذا لا يُلغي أننا نراهن على حقنا والقانون في الوقت الذي تُراهن فيه السلطة على النسيان، ونرفض أن يكون هذا الرابط البديل حلاً دائمًا، إنما هو حلٌ مؤقتٌ يجب أن ينتهي حين يأخذ القانون مجراه، وإلا فلا تحدثونا عن انتخابات وعرس ديمقراطي، وسلطة وطنية. وتوقفوا عن توجيه النقد الشديد الواصل لحد التخوين والإقصاء لحركة حماس حين تمنع إحياء ذكرى رحيل ياسر عرفات، أو حين ترتكب أي انتهاكات لحقوق الإنسان والحريات في غزة، لأن "الي بيته من كزاز ما برمي الناس بحجارة!".


اقرأ/ي أيضًا: 

يوم الحجب الأكبر

شاشة بشعة في رام الله

زعيتر يكتبني: حطموا الأقلام