07-يناير-2017

مظاهرة بمدينة حيفا في ذكرى يوم الأرض - Getty

يسألك سائق التاكسي: "جنين البلد ولا المخيّم؟" ومثله، يسأل الناس في أماكن شتّى من فلسطين أسئلةً كهذه: طولكرم المخيّم؟ شعفاط البلد؟ قلنديا الحاجز أم البلد أم المخيّم؟ هكذا صارت في المفردات الفلسطينية ثنائياتٌ تشير إلى وجود حيّزاتٍ مدينيةٍ متوازيةٍ لا تختلف في التسميات فحسب، بل وفي تعامل المؤسسة الرسمية معها.

المفارقة التي قد لا يعرفها البعض هو أنك بإمكانك أن تسأل أيضًا، شخصًا آتيًا من حيفا، إن كان آتيًا من حيفا البلد أم حيفا المخيّم. مجازًا طبعا. فنحن الفلسطينيون نعيش أيضًا في هامش المجاز.

احتلال الحليصة للمرة الـ...

خلال الأيام الأخيرة، داهمت قواتٌ كبيرةٌ من الشرطة والوحدات الخاصة ورجال الشاباك والكلاب حي الحليصة الفقير المنكوب الواقع على منحدرات جبل الكرمل شرقي حيفا، حيث اقتحمت القوات البيوت من دون أمرٍ قضائيٍ أو استئذانٍ أو انتظار، وألقت النساء والأطفال الذين كانوا نائمين في أسرّتهم إلى برد الليل أثناء عمليات تفتيش البيوت والعبث في محتوياتها.

الاقتحامات لحي الحصيلة نفذها جنودٌ ملثمون

قامت الشرطة بكل ذلك بحجة البحث عن شابٍ من أبناء الحي، تقول إنها تشتبه بضلوعه في مقتل يهوديٍ في حي الهادار المجاور صباح يوم الثلاثاء 3 كانون الثاني الجاري. لكن عمليات المداهمة العشوائية البربرية لم تكن مجرد إجراءات تحقيقٍ شرطيٍ عاديٍ، بل كانت عملية انتقامٍ وترهيبٍ موجّهةٍ ضد سكان الحي بشكل عام. فرجال الشرطة، حينما يقومون بتغطية وجوههم بالأقنعة السوداء، لا يكونون رجال قانونٍ بل عصابةً إجراميةً تأتي لكي تنفذ جرائمًا دون أن يتاح التُعرف على هوية المنفذين.

الشرطة الإسرائيلية اقتحمت حي الحليصة بأسلوب عصاباتٍ إجرامية، وضابط قال لوالد المتهم بعمليتي حيفا "قل الله يرحمه"

اقتحم رجال الشرطة الحي وهم يحملون البنادق التي تستعمل في العمليات القتالية. وكانت تصرفاتهم جميعها تشهد بأنهم لم يأتوا بهدف اعتقال المشتبه به بل بهدف قتله. بذا، يقوم هؤلاء بـ"إغلاق الملف" من دون التحقيق فيه. بل إن بعض ضبّاطهم قد صرّح بهذه الغاية بشكل مكشوف، لوالد الشابّ المطلوب وقالوا له "قل ’الله يرحمه‘ وأحضر التمر...".

اقرأ/ي أيضًا: بالصور: قرية كور.. وحنين لأيّام "عزّ"

بعد يومين من هذه الحملة المسعورة سلّم الشاب المطلوب نفسه لمركز الشرطة في عكا ونُقل إلى زنازين المخابرات بهدف انتزاع الاعتراف منه. ويبقى أمر التعتيم على حيثيات التحقيق ساري المفعول. ولكن، كما نُشر من أقرباء المعتقل، فهو ينفي أي علاقةٍ بالمنسوب له.

أمَّا الاعتداء الصهيوني على حي الحليصة وسكانها فهو ليس أمرًا جديدًا، وقد اخترتُ، في هذه المناسبة أن أتذكر وأذكّر  ببعض سوابقه.

الاحتلال الأول – 1948

الحليصة حيٌ جبليٌ صغير، بُني في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي. وقد كان في الحليصة مقر اتحاد لجان الأحياء العربية، على شارع صلاح الدين الرابط بين حي الهادار اليهودي وبين مدخل حيفا الشرقيّ.  تحوّل مركز لجان الأحياء لاحقًا إلى مقرّ لـ"حركة النجادة" التي اجتهدت للدفاع عن حيفا قبل سقوطها وتهجير سكانها في شهر نيسان 1948. وقد  كانت الحليصة ميدان المقاومة الأشدّ في حيفا، حيث كان القتال يتركّز هناك من منزلٍ إلى منزل. ولا أزال أذكر، حين تعرّفت على هذا الحي للمرة الأولى في سنوات الثمانينيات، مشاهدتي لآثار الرصاص، من آثار معركة الحليصة، على العديد من جدران منازل الحي.

حي الحصيلة هو الأفقر في مدينة حيفا

بعد تهجير سكان الحي الأصليين استولت "دولة إسرائيل" وبعض السماسرة على ممتلكات هؤلاء، وأسكنت المهاجرين اليهود فيها. وقد ظل الحيّ على هذا الحال إلى أن عادت إليه هويته العربية الأصلية بعد عقود، حين تحول إلى أفقر أحياء المدينة. حيث تمكّن بعض لاجئي حيفا والقرى والمدن المهجرة الأخرى، شراء حق السكن "الأجر بالمفتاحية" في منازل الحي. أتذكر بأن أحد سكان الحي قد روى لي بأنه حين حضر لكي يوقّع على اتفاقية الاستئجار مع شركة "عميدار" [وهي شركة الإسكان الحكومية] قال له الموظف: "لقد كلّفنا احتلال الحليصة الكثير من الدماء وها أنتم تشترونها منّا".

احتلت إسرائيل حي الحليصة عام 48 وأسكنت فيه المهاجرين اليهود، قبل أن يتمكن بعض لاجئي حيفا والقرى والمدن المهجرة من العودة له

تحولت الحليصة إلى مخيمٍ للاجئين الفلسطينيين في وسط حيفا، بإمكان المرء فيه أن يجد العائلات الناجية من مجزرة بلد الشيخ أو مجزرة الطنطورة، إلى جانب مهجري أم الزينات وصفورية وسحماتا والياجور وغيرها.

ذكريات التهجير الثاني 1967

كنت ساكنًا جديدًا في الحي، عندما حلّ موعد انتخابات الكنيست في العام 1984. أصدرت حركة أبناء البلد التي أنا ناشطٌ فيها، وقتذاك، بيانًا يدعو لمقاطعة الانتخابات. ولكنني وجدت بأن الأحزاب الصهيونية تقتحم الحي. في الوقت الذي كان فيه الحزب الشيوعي، الذي يملك جذورًا في الحي، لا يجرؤ على توزيع بيانه الانتخابي هناك. ولذلك، فقد تجاوبت مع مبادرة  "الكابتن"، وهو ناشطٌ كان أهل الحي يطلقون عليه هذا اللقب لأنه كان مدرّبا لفريق كرة القدم الخاص بالحليصة، وخرجنا سويًا لتوزيع بيان الجبهة الديمقراطية على منازل الحارة. وقد فوجئت عندما قال لنا العديد من المواطنين الذين زرنا بيوتهم بأنهم يخشون من التصويت للجبهة، ويخشون أكثر من المقاطعة، خوفًا من أن تقوم السلطات بقطع الماء والكهرباء عنهم.

علمت، فيما بعد، بأن هذه المخاوف لم تكن وهمية، بل نتاج تجربة السكان المريرة، الذين تجمّعوا في غالبيتهم في مخيمٍ للاجئين الفلسطينيين بعد الحرب على ساحل حيفا، في حي "البراكسات" وهو حيٌ مكونٌ من أكواخٍ تم بناؤها كيفما اتفق، في المنطقة الصناعية المجاورة لأرض الرمل، من دون أن يتلقوا أبسط الخدمات البلدية.

خلال حرب 67 تم مسح حي الحليصة عن وجه الأرض، وعاد لاجئو عام 48 إلى الكهوف بعد أن سكنوا بيوت الصحفيح في الحي

في العام 1967، استغلت البلدية الصهيونية أجواء الحرب، وأتت، من دون سابق إنذارٍ في صباح يومٍ من أيامها لكي تسوي الحيّ الفقير بالبلدوزرات وتمسحه تمامًا من على وجه الأرض. وهكذا، عاد لاجئو العام 1948 من جديدٍ إلى اللجوء، وعادوا بعد "تمتعهم بميزة السكنى في بيوت الصفيح" إلى السكنى في الكهوف وبقايا المنازل المهدومة في وادي رشميا القريب، من دون ماءٍ جارٍ أو كهرباء. لقد كانت مجرد مسألة الحصول على منزل في حي الحليصة تعد إنجازًا كبيرًا لهم، بعد مرور عشرات السنوات من دون أن يكون لهؤلاء سقف ثابت فوق رؤوسهم ورؤوس أطفالهم.

منع تجول

لم تنتهِ معاناة السكان في نقطة تثبيت وجودهم في حي الحليصة. فلطالما اعتبرتهم بلدية حيفا "غرباء" رغم وجود أغلبيتهم في حيفا منذ 1948، ورغم أن العديد منهم كانوا يعيشون في حيفا قبل النكبة وقبل معظم السكان اليهود في حيفا. وقد مارست البلدية، والهيئات الحكومية سياسة التمييز والإهمال تجاه الحي، وذلك على أمل أن يتسببوا في نزوح السكان الفلسطينيين من المدينة. فكانت هذه المؤسسات حال تمكنها من إخلاء أحد المنازل من ساكنيه، تقوم بهدمه. وقد حدث أيضًا أن الحكومة هدمت أنصاف المنازل، قبل رحيل كل سكانها، وحولتها إلى مواقع غير صالحةٍ للسكنى.

اقرأ/ي أيضًا: عزمي بشارة: المدينة الغائبة

تبنت شرطة حيفا، أيضًا، سياسةً مقصودةً لتحويل حي الحليصة إلى مركزٍ لتجارة المخدرات، وذلك بهدف إبعاد هذه التجارة عن الأحياء اليهودية. لقد تسبب هذا الأمر في ضياع جيلٍ كاملٍ من الشباب في سنوات السبعينيات والثمانينيات. وقد استمرّ الأمر إلى أن قام السكان بتنظيم أنفسهم لإبعاد هذا الوباء عن الحي. وكان الإجرام في الوقت ذاته يتفشى في الحي من دون أن تقوم الشرطة بأدنى مجهود لمنعه.

تبنّت الشرطة سياسة "الغزوات الانتقامية" لمعاقبة الحي بأكمله. ولا زلت أذكر الأيام التي كانت فيها الشرطة تعتدي على الشباب وتهينهم في الشارع الرئيسي الواصل بين حيفا والجليل الغربي، الملاصق للحي، وتطور الأمور إلى مواجهاتٍ مفتوحة بين راشقي الحجارة  وقوات القمع، حيث كانت هذه المواجهات تستمر لساعاتٍ طويلةٍ وتنتشر في كل موقع من مواقع الحي.

في مرحلةٍ متأخرةٍ، أصابت مصيبةٌ أخرى الحي، تتمثل في ظاهرة الصراعات الداخلية وانتشار السلاح وتنفيذ حالات قتل. وعلى الرغم من انتقال مقر الشرطة المركزي في حيفا إلى حي "الحليصة التحتى" فإن هذه الشرطة لم تتدخل للكشف عن منفذي جرائم القتل، أو لمنع العنف طالما طال هذا العنف سكان الحي الفلسطينيين. وتحضرني في هذا السياق قصةٌ حصلت في شهر حزيران 2008، حين أتت الشرطة في أحد الأيام التي شهدت فيها شوارع الحليصة اشتباكًا بالسلاح الناري، وقد ادعى رجال الشرطة بأن بعض الشبّان قد قاموا بتصويب أسلحتهم نحو رجال الشرطة، علمًا أن أحدًا من هؤلاء لم يصب.

قررت الشرطة معاقبة الحي بأكمله، لاستعادة هيبة الدولة، وعادت مساء اليوم ذاته إلى الحي بقوات معززة من الوحدات الخاصة وتلك التابعة لحرس الحدود، وأعلنت عن فرض حظر التجول في الحيّ بأكمله. وانشغلوا أثناء قيامهم بفرض الحظر بإيقاف ركاب السيارات العائدة إلى الحي، من دون علم أصحابها بأن هنالك حظر تجول مفروض، حيث كانوا يجرون الناس من السيارات في الشوارع ويقومون بضربهم ضربًا مبرحًا على جانب الشارع الرئيسي. فإذا ما حاول أحد السكان الخروج من منازلهم لوقف الاعتداء على أقاربهم أو ضيوفهم، تحول هو نفسه إلى ضحية لوحشية الميليشيات الشرطية.

الهدم والترحيل

لم تقتصر المواجهات بين الشرطة وسكان الحليصة على الكرامة فحسب؛ أو على الاحتلالات المتكررة، بل إن لدينا أيضًا حصتنا من النضالات المطلبية.

قمة هذه النضالات كانت في عزّ برد الشتاء في مثل هذا الشهر، كانون ثاني 2005، عندما أصدرت المحكمة، بطلبٍ من البلدية، أمر هدمٍ لبعض الشرفات، كمقدمةٍ لمشروعٍ كبيرٍ لتوسيع الشوارع على حساب البيوت والساحات والحدائق. قام سكّان الحي بنصب خيمة اعتصام أمام المنازل المهددة ونظموا الحراسة ليلًا ونهارًا. لقد جهّز أهل الحي أنفسهم في هذه المرة لمجابهة القمع ولمنع احتلاله مرة أخرى. وقد أدى ذلك، في النتيجة، إلى امتناع الشرطة عن اقتحام الحي، وهذا ما أجبر البلدية على التنازل عن مشروع الهدم والمصادرة.

دعمت شرطة حيفا تحويل حي الحليصة لمركز مخدرات، وانتشار السلاح فيه، وقد تصدى الأهالي لذلك كما أفشلوا تنفيذ أوامر هدمٍ في حيهم

لم يتأخر، بعد ذلك، انتقام الشرطة من انتصار السكان عليها. فقد اختارت البلدية هدفًا آخر للهدم، وهو منزل عائلة بشكار، على مدخل مدينة حيفا الرئيسي، وهو منزل منزوٍ عن منازل الحي. أغلقت الشرطة مداخل حيفا الرئيسية طيلة ساعاتٍ وحاصرت المتمترسين في المنزل (الذين بلغ عددهم نحو مئة من النشطاء)، واعتدت عليهم بالضرب قبل أن تقوم بهدم المنزل. إلا أن السكّان جمعوا التبرعات ووضع بيتٍ نقّالٍ جاهزٍ، في موقع المنزل المهدوم.

إن حادثة هدم منزل عائلة بشكار، لم تروِ غليل الشرطة ورغبتها في الانتقام من سكان الحليصة، فقد استغلّت الشرطة، ثانيةً، أمر إخلاءٍ ثانٍ صدر ضد أحد سكان الحي، وفاجأت السكان صباح أحد الأيام بإغلاق جميع المداخل، واقتحام الشوارع باستخدام مئات العناصر من بلطجية الوحدات الخاصة، واستخدام الطيران في سماء الحي. واقتحمت قوات الكوماندوز الشرطي المنزل المستهدف لتعتقل سكانه: رجلٌ عجوزٌ يعاني من أمراض القلب، مع زوجته وبناته اللواتي كنّ في الفراش. وانتصرت الشرطة مجددًا باعتقال العائلة وتدمير محتويات منزلها.

إننا، إن قلنا بأن الحلّيصة محتلة، فهذا لا يعني كلامًا مبدئيًا مجردًا فحسب، بل إن هذا الاحتلال مستمرٌ، ويأتي على شكل سلسلة رعبٍ متكررةٍ يعيشها السكان جيلاً وراء جيل.

اقرأ/ي أيضًا:

قتل مباح.. قتل محظور!

غسّان كنفاني.. العودة إلى الدرس الأول

رواية فلسطينية خارج سوق الدموع