24-فبراير-2018

تصوير مؤمن فايز - (Getty)

على مضض، تناول الصحافي محمد سواركة (24 عامًا) بعد نقاش قصير جاف، المكافأة المالية من رئيس تحرير إحدى المؤسسات الإعلامية في غزة ، لقاء تقرير صحافي أعده، ثم قال له رئيس التحرير: "منيح إنك لاقيها في هالبلد" قاصدًا الـ 50 شيكل قيمة مكافأة التقرير، وهي تعادل (15 دولار). أجاب سواركة وهو يدير ظهره استعدادًا للمغادرة، "لا ألومك أنت، بل ألوم نفسي لأني دخلت هذا المجال وقابتلك".

سواركة صحافي يكتب قصصًا إنسانية، ابتعد منذ مدة عن العمل الصحافي "بعد أن فقد قيمته، وتحول لبيئة خصبة للظلم" كما يقول. السياسة الاستغلالية التي تنتهجها دون رقابة بعض المؤسسات الإعلامية في قطاع غزة، دفعت الكثير من أمثال محمد إلى النفور من مهنتهم.

15 دولار فقط قيمة تقرير صحافي في قطاع غزة.. مؤسسات إعلامية: "بيعجبك تفضل ما بيعجبك غيرك بيشتغل"

يقول سواركة لـ"الترا فلسطين" إن بعض المؤسسات الإعلامية في غزة، "تتعامل مع الصحافيين بدونية حقيرة، مستغلة الحاجة المالية أولاً، وشح فرص العمل الإعلامي ثانيًا،  وإذا أبديت اعتراضك، يرد المدير إذا أنت ما بنفع معك هيك، بجيب غيرك يشتغل".

اقرأ/ي أيضًا: في مؤسسات غزة.. ذوات الإعاقة للاستغلال فقط

سواركة كان واحدًا من 15 متطوعًا في إحدى المؤسسات الإعلامية خلال الحرب الأخيرة على قطاع غزة، عمل الـ51 يوماً متواصلاً، مقابل 900 شيكل فقط. يعلق على هذه التجربة قائلاً: " واجهت وزملائي المتطوعين خطر العمل في الميدان، في حين كان الموظفون الرسميون في المؤسسة، الذين لا يزيد عددهم عن 7 أشخاص، يتحصن بعضهم داخل المؤسسة وآخرون في بيوتهم، ويتقاضون راتبًا لا يقل عن 400 دولار للشخص الواحد" .

وأضاف، "أما نحن المتطوعين اصحاب الجهد الرئيس في التغطية، أعطونا هذا المبلغ، ثم طردونا بعبارات مُزركشة: شكرًا لخدماتكم، واعذرونا أن مدة التطوع انتهت. ولم يتم توظيف شخص واحد منا".

أعد سواركة تقريرًا عن أسرة فقيرة لا يملك رب البيت فيها عملاً أو دخلاً ماليًا، فكانت قيمة المكافأة المالية 60 شيكل، وعندما اعترض على المبلغ، قال له مدير التحرير بلغة فجة: "احنا هيك أسعارنا، بيعجبك تفضل ما بيعجبك براحتك". يقول: "بماذا اختلف أنا الآن عن رب الأسرة التي أعددت تقريرًا عنها وحاولت أن أوصل صوتها للجميع؟ الـ60 شيقل لا تبل عطشي الذي أشعر به وأنا أعد المقابلات، ولا توفر طعامًا لزوجتي وطفلتي" .

وأضاف، "أقصى ما تسعى إليه هذه المؤسسات هو أن تبدو كذبًا بمظهر حامل هم المواطن.  لم يعلمونا أبدًا أن الصحافة يمكن أن تتحول إلى تجارة، وحقيقة لم أعد أؤمن بها، وأبحث عن عمل آخر يكفيني لسان مدراء هذه المؤسسات".

صحافيون من غزة تركوا المهنة يتساءلون: "كيف لجهة إعلامية تسرق جهود الصحافيين أن تدافع عن حقوق الناس؟"

الصحافي علي الدوقة (26 عامًا)  ترك العمل مع الصحف والوكالات المحلية بعد أن تعرض لظلم مشابه، يقول: "رؤساء المؤسسات الإعلامية في غزة يحاولون قدر استطاعتهم تحطيم معنوياتك وتحجيم قدراتك، كي يتمنكوا من استغلالك".

اقرأ/ي أيضًا: معلمات رياض الأطفال.. دوام طول العام والراتب فتات

وأضاف، "دخلت أول مؤسسة محلية كمتدرب، رغم أني لا أحتاج لتدريب؛ لكن لتعريف المؤسسة بقدراتي. كنت أعد تقارير تفوق الموظفين الرسميين في المؤسسة في الكفاءة والعدد، وأحصل على 300 شيكل (90 دولار) كل شهر، وعندما رأى المدير قدراتي، وقعت عقدًا لسنة واحدة، لقاء 800 شيكل (220 دولارًا)".

يبين الدوقة لـ"الترا فلسطين" أنه عمل خلال هذه السنة مراسلاً ميدانيًا، ومعد تقارير، على مدار عام كامل، وعندما انتهى العقد، اقترح مدير التحرير تجديده، فطلب الدوقة زيادة الراتب، ليكون الرد "ليش هو في صحافي مثلك، بياخذ أكثر من هيك؟". قرر الدوقة إثر ذلك عدم تجديد العقد، ليحصل بعد شهر على فرصة عمل مع وكالة دولية.

يضيف، "بعض المؤسسات الإعلامية في غزة نزعت مهنة الصحافة عن قدسيتها، وحولتها إلى تجارة بأسلوب ابتزازي رخيص، وأكثر ما يضحك أن هذه المؤسسات التي تنتهج الاستغلال في الخفاء، تتغلف بالمدافع عن حقوق المواطنين والمحارب للظلم".

 الصحافي يحيى أبو ركبة، انتسب لمؤسسة إعلامية كمتدرب على أمل أن يرفع التدريب العملي من قدراته الصحافية، لكنه ظل لـ7 شهور يعد القهوة والشاي، بدلاً من إعداد التقارير وتحرير الأخبار. يقول: "فقدت إلى حد ما جزءًا من مهاراتي الإعلامية التي تعلمتها بجهد ذاتي، وذلك لأني لا أمارس العمل بالشكل المطلوب، بل يقولون لي، فقط شاهد ماذا نفعل كي تتعلم".

يضيف أبو ركبة لـ"الترا فلسطين" أنه تحول إلى "عتال" للصحافيين في المؤسسة، "في الوقت الذي يكون هناك تغطية لحدث ما، ينادي علي المدير: يحيى حضر الأغراض، وإذا كان هناك شيئ يحتاج لتنظيف جهزه بسرعة. والمحررون يرسلونني لإعداد المقابلات مع الضيوف، ثم يأخذونها لتقاريرهم وينسبونها لأنفسهم" .

صحافي دخل مؤسسة إعلامية للتدريب فتحول إلى عتّال يحمل المعدات وينظفها، ويعد القهوة والشاي، ويعد مقابلات لتقارير المراسلين

"الترا فلسطين" توجه إلى نقابة الصحافيين الفلسطينيين، متسائلاً عن دورها في حماية الخريجين الجدد ووضع حد لاستغلالهم من قبل المؤسسات الإعلامية. نائب النقيب تحسين الأسطل اعترف بوجود هذا الاستغلال، وقال: "هناك بالفعل استنزاف للصحافيين والطاقات الإعلامية عمومًا، من متدربين ومتطوعين وصحافيين".

اقرأ/ي أيضًا: معلمو المدارس الخاصة: أداة في ماكينة استثمارية

وأضاف الأسطل أن النقابة تتابع مع نقابة العمل، ووزارة العدل، ونقابة المحامين، من أجل وضع حد لهذا الاستغلال بشكل قانوني ومراعاة حقوق الصحافيين والمتطوعين في المؤسسات الإعلامية. وعندما سألنا الأسطل إذا كانت النقابة تملك لجنة رقابية تتابع هذا الملف مع المؤسسات الإعلامية، أجاب، "نحن في نقابة الصحافيين، في حالة تشاور دائم مع الجهات المعنية لوضع الاعتبارات التي من شأنها الحد من هذه المشكلة ومن ضمنها تصحيح العلاقة ما بين العاملين و المؤسسات الصحافية".

وأشار إلى أن طبيعة الظروف التي تعمل بها هذه المؤسسات غير واضحة، مبينًا أن النقابة الآن في طور إعداد درسات واضحة، لبحث الآليات، مقارنة بالوضع الاقتصادي السيء، وإلزام المؤسسات الإعلامية عبر كل الجهات المعنية الحكومية وغيرها بربط الاعتراف بهم، بتطبيق الحقوق والحد الأدني من الأجور.

ويؤكد حديث الأسطل عن المساعي والآمال العجز الحقيقي للنقابة عن القيام بدور فعلي ينهي استغلال الخريجين، ويلزم المؤسسات الإعلامية باحترام حقوقهم التي ينص عليها القانون بوضوح، ما يعني أن هذا الاستغلال سيبقى قائمًا، وهذه القصص ستبقى تتكرر، إذا لم يضع المتطوعون أنفسهم حدًا له، على قاعدة "ماحك جلدك غير ظفرك".


اقرأ/ي أيضًا:

شركات خاصة لاستغلال الفتيات في غزة

فيديو | أيهما أربح؟ العمل بالشهادة أم الصنعة؟

المحل للإيجار.. الإعلان الأشهر في غزة