28-ديسمبر-2018

أصعب ما قد يشتغل عليه الباحث المنشغل في نصوصٍ تؤرخ لأحداثٍ خلت، مراجعة تاريخ بعض الشخصيات الواردة في هذه النصوص، خصوصًا إن رغب في إدراج تراجم تخدم هذه النصوص. وتتعدد مصادر صعوبة ذلك، لكن أبرزها أن المحقق أو المحرر لهذه النصوص، يسعى في التراجم لإيجاد نصٍ كثيفٍ دقيق، يختصر فيه أبرز العلامات الفارقة في شخصية المترجم له، وبما يخدم أيضًا القارئ ويوسع إدراكه لسياق الأحداث المحكي عنها في المتن الأساسي.

المصدر الأساسي الذي قد يحمل العبء عن المحقق والمحررين في هذه الحالة، النصوص الموسوعية المهتمة بالترجمة للشخصيات المختلفة. وفي حالة فلسطين، يتوفر عددٌ لا بأس به من النصوص تُتَرجمُ لفلسطينيين عاصروا مقاومة أهل فلسطين للاستعمار البريطاني فالصهيوني منذ قرن. معظم هذه النصوص تأسست بجهود ذاتية كنص يعقوب العودات "من أعلام الفكر والأدب في فلسطين"، الذي نشر أول الأمر في سلسلة مقالاتٍ في مجلة الأديب مطلع السبعينيات، ثم طبع في مجلد واحد. كذلك نصوص محمد عمر حمادة؛ التي نُشِرَت في موسوعة أعلام فلسطين، وصدر منها ثمانية مجلدات. أو وُجِدَت كذكرياتٍ وخواطر مثل كتاب رجال من فلسطين لعجاج نويهض. تُضاف إلى هذه النصوص، بعض التراجم الواردة في الموسوعات كالموسوعة الفلسطينية في قسمها العام، وموسوعة "Encyclopedia of the Palestinians" لفيلب مطر، ونصوص تراجم وسير أخرى صدرت عن مؤسسات بحثية كمؤسسة باسيا. 

بالنظر إلى التراجم التي يوردها بعض الباحثين في نصوصهم المحررة، تصطدم بأخطاءٍ تقود  إلى أهمال شخصيات وحوادث تاريخية مؤسسة

لكن عند تحقيق الكثير من هذه التراجم، أو بالنظر إلى التراجم التي يوردها بعض الباحثين في نصوصهم المحررة، يصطدم القارئ بأخطاء في الكثير من جوانب هذه السير، أو بإيراد معلومات غير محققة، والإشكالية الأساسية في هذه الأخطاء، والتي دفعت لهذه المقالة، أن هذه الأخطاء تقود في كثير من الأحيان إلى إهمال فنسيان شخصيات وحوادث تاريخية مؤسسة، وهنا نموذج لذلك.

صورة الشهيد الأنصاري كما وردت في: فلسطين
20 حزيران/ يونيو 1936، ص1.

أورد أكرم مسلّم، محرر المجلد السادس من يوميات خليل السكاكيني، في أحد هوامشه ترجمة للشهيد سامي إبراهيم الأنصاري، فكتب:

"سامي إبراهيم الأنصاري ولد في القدس سنة 1917، وعاش ودفن فيها، ولد في الأسبوع الأول لدخول الإنكليز للقدس، درس في مدارسها الابتدائية والثانوية، تخرج من المدرسة الرشيدية وتابع دراسته العليا في الكلية العربية وبعد تخرجه عين معلما في المدرسة الرشيدية، وهو رياضي من الطراز الأول،[....] خلد ذكراه {إبراهيم طوقان} في قصيدته الفدائي، والتي جاء منها:

هو بالباب واقف والردى منه خائف

فاهدأي يا عواصف خجلاً من جراءته".

قبل نقاش ما ورد في هذه السيرة، ضروري الإشارة إلى أن الشهيد المترجم له من شهداء ثورة 1936 الأبرز، الذين يمكن أن تتوفر مصادر لسيرتهم في غير موضع، بخلاف الكثير من الشهداء والشخصيات الذين يحتاج الباحث للكثير من الحفر بحثًا عن شذرات تحفظ ذكرهم.

أول ما يصطدم به الباحث في هذه الترجمة، تاريخ ولادة الشهيد، الذي يظهر أن الباحث أو مصدر الترجمة الأول استخرجه بناء على المعلومة "ولد في الأسبوع الأول لدخول الانجليز القدس"، لكن بالعودة إلى مصدر أقرب، وهو في هذه الحالة الترجمة التي توردها جريدة فلسطين للشهيد في عددها الصادر في 20 حزيران/ يونيو 1936، وعلى صدر صفحتها الأولى، فإن الشهيد الأنصاري ولد في شهر كانون الثاني/ يناير 1918. مع الإشارة هنا إلى أن دخول المحتل البريطاني للقدس كان في 9 كانون الأول/ ديسمبر 1917، لكن المعارك بقيت مستمرة في مواضع مجاورة إلى 30 كانون الأول/ ديسمبر تقريبًا.

أما عن تعليم الشهيد، فتورد "فلسطين" أن تعلمه الابتدائي كان في المدرسة البكرية، ثم نال الشهادة الثانوية من المدرسة الرشيدية، وحصل على شهادة المعلمين من قسم التربية في الكلية العربية، ونجح في امتحان التعليم العالي "متروكليشن" باللغة الإنجليزية، وإثر ذلك التحق في أيلول/ سبتمبر 1935 مدرسًا للإنجليزية في الرشيدية، وهذا يتفق مع ما كُتِبَ في الترجمة أعلاه، ويتفق بعضه مع ورد في يوميات السكاكيني في النص المحقق، لكنه اختزل في الترجمة الواردة أعلاه بما يحرم القارئ من التعرف على جزء أساسي من تاريخ القدس الثقافي.

المقطع الأخير من الترجمة الواردة هنا، كان الأكثر استفزازًا، لما ترتب عليه من تضليل دفع لنسيان أحد الشخصيات الفاعلة في تاريخ فلسطين المقاوم، وتجاوز ذكره. ففي هذا المقطع يؤكد المحرر أن الشهيد إبراهيم طوقان، خلَّد الأنصاري بقصيدته الفدائي، لكن هل يمكن أن يكون طوقان خلد الأنصاري قبل فعله باغتيال مفتش الشرطة البريطاني في القدس سيكرست يوم 12 حزيران/ يونيو 1936 بسنوات!

"الفدائي"، مرآة الشرق، 12 نيسان/ أبريل 1930، ص1

أغلب الظن أن النشر الأول لقصيدة طوقان "الفدائي"، كان في جريدة مرآة الشرق تحت عنوان "الفدائي لشاعر فلسطيني كبير"، في عددها الصادر يوم 12 نيسان/ أبريل 1930، وكانت الجريدة آنذاك برئاسة تحرير أكرم زعيتر الذي حولها لأحد أهم المنابر المنادية بشكل غير مباشر بالكفاح المسلح ضد المستعمر البريطاني، وكان ذلك مدعاة لاعتقاله يوم 11 نيسان/ إبريل، أي قبل نشر القصيدة بيوم. أما المرة الثانية التي نُشِرَت فيها القصيدة، وأيضًا بعنوان "الفدائي"، فكانت في جريدة النفير، في عددها الصادر يوم 15 حزيران/ يونيو 1930، ووقعت هذه المرة باسم إبراهيم طوقان الصريح.

إذًا فموضع نشر "الفدائي" بعيد كل البعد عن فعل الشهيد سامي الأنصاري، وبكل تأكيد فإن القصيدة أتت لتخلد حدثًا مختلفًا.

قصيدة "الفدائي" لـ إبراهيم طوقان نُشرت أول مرة عملية محمد عبد الغني أبو طبيخ التي أُصيب على إثرها رئيس النيابات العامة في فلسطين، البريطاني بنتويتش

السياق الأول الذي نشرت فيه القصيدة في جريدة مرآة الشرق، ارتبط بشكل مباشر بعملية الفدائي الأول، بتعبير أكرم زعيتر، أي عملية محمد عبد الغني أبو طبيخ ظهر الأحد 24 تشرين الثاني/ نوفمبر 1929. إذ أقدم أبو طبيخ (كان عمره خمس عشرة سنة وهو من قباطية جنين)، الذي كان يعمل آذنًا للشرطة، على إطلاق النار من مسدس على رئيس النيابات العامة في فلسطين البريطاني بنتويتش، فأصابه في قدمه. انعكس هذا الحدث الذي تبع أحداث البراق 1929، وتزامن مع أحاديث الصحف الفلسطينية عن انحياز بنتيويتش للصهاينة، بشكل كبير في بعض الكتابات المنادية بضرورة الكفاح المسلح ضد المستعمر البريطاني، وكان أكرم زعيتر من أبرز المتأثرين بالحدث، فكتب:

"هذا أول حادث من نوعه في فلسطين. هذا هو أول فدائي يقدم على إطلاق النار على الرجل الذي يعمل ليل نهار على تهويد وطنه. إذا كانت الإضرابات والاحتجاجات والمؤتمرات والاجتماعات والمظاهرات لا تزحزح ذلك الصهيوني عن مركزه الخطير فما الذي زحزحه غير رصاصة كرصاصة محمد عبد الغني أبي طبيخ؟" [اكرم زعيتر، بواكير النضال: من مذكرات أكرم زعيتر 1909-1935، (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1994، ص72].

واهتم زعيتر بعد توليه رئاسة تحرير مرآة الشرق، بدءًا من العدد الصادر يوم 4 كانون الثاني/ يناير 1930، بأخبار أبو طبيخ ومتابعة تفاصيل محاكمته، إلى أن حكم عليه بالسجن خمسة عشر سنة مع الأشغال الشاقة يوم 27 شباط/ فبراير 1930، ثم قام زعيتر بزيارته في سجنه محييًا بطولته وداعيًا لنصرته، ونشر زعيتر قصيدة الفدائي، في هذا السياق. يؤكد هذا الاستنتاج التقديم الذي وضع للقصيدة في الأعمال الشعرية الكاملة لإبراهيم طوقان، التي نظر فيها إحسان عباس وقدمت له أخته فدوى، مع الاختلاف في تاريخ النشر، إذ يشير الديوان إلى أنه كان أول مرة في 9 حزيران/ يونيو 1930.

أما 15 حزيران/ يونيو 1930 موعد نشر القصيدة في النفير، فارتبط بتوابع أحداث ثورة البراق، إذا أتى متزامنًا مع احتجاجات الصحف المحلية على القرار البريطاني بتنفيذ أحكام الإعدام بثلاثة من أبطال ثورة البراق، (عطا أحمد الزير، محمد خليل جمجوم، فؤاد حسن حجازي) والذي نفذ يوم 17 حزيران/ يونيو 1930.

ختامًا عدم الاهتمام بتحقيق التراجم، خصوصًا إن كانت مرتبطة بحوادث وأفعال لشخصيات مغايرة، قد يؤدي في كثيرٍ من الأحيان إلى إهمال ذكر بعض الشخصيات والحوادث الأخرى؛ التي لا يقل استحضارها أهمية عن استحضار الشخصيات المترجمة. وفي حالة الترجمة التي أُخِذَت نموذجًا هنا، فإن ربط الشهيد الأنصاري بقصيدة "الفدائي" تصدر لباحثين آخرين، وتكرار مثل ذلك يدفع لإغفال ذكر فعل أبو طبيخ، وسيختم بنسيانه.


اقرأ/ي أيضًا:

رام الله: غزل قديم في ثورتها

رحلة لم تكتمل: نافذة على تأريخ لم يدون بعد

استعادة من الأرشيف: فعل "الجيش البريطاني السافل" في حلحول