15-أبريل-2018

إياد الدواهيد يحمل قدمه في المستشفى - تصوير محمد عابد (Getty)

ذهب إلى الحدود شامخًا، يهتف بقلبه لحن الثوار، وهو أكبر الإيمان لفتىً لم يتجاوز الثمانية عشر عامًا، خذلته حواسه حينما ولد أصمًا، لكنّ اسمه (تحرير) كان مدادًا لهمتّه، لم يقبل الالتحاق بركب القاعدين، ولم يأبه لرجاء عائلته بعدم ذهابه للحدود، خشيةً من أن يمسّه السوء.

لم يكن يسمع تحرير أبو سبلة، من بلدة معن بمدينة خانيونس إلا نداء الوطن للتحرير، وقلبُ الأم يغلي كلما تركها بِكرها وذهب، لتلحق به على عجل، وفي كل مرة كان يمارس معها "لعبة التخفي" كُلما لمحها ببصره، خشية أن تُجبره على العودة، وتحسبًا لأي أمر، دس في يد إحدى الشبان ورقة دوّن فيها اسمه ورقم والده.

تحرير أبو سبلة، منعه الصمم من أن يسمع رصاص القناصة، فكان يفعل مثل المتظاهرين، لكنه أُصيب في رأسه وهو يرفع العلم

كان دليله الثائرون، يفعل كما تشي له ردود أفعالهم، يركض كلُم شاهدهم يفعلون ذلك؛ ثم يعود إلى جانبهم. في اليوم الثالث من ذهابه للحدود الشرقية لبلدة خزاعة كان على موعدٍ مع خيانة بصره أيضًا له، لينجح الجميع من حوله في الهروب، ويرفع تحرير العلم ثم يسقط على الأرض غارقًا بدمائه، بعد اختراق رصاصة قناص "إسرائيلي" رأسه مباشرة.

اقرأ/ي أيضًا: مُسفعة بقدم مكسورة وضغط مزمن و"هيموفيليا"

يمضي تحرير أيّامه منذ أسبوعين على سريره الأبيض في العناية المُركزة بالمستشفى الأوروبي في حالة حرجة جدًا، وعينا أمه وشقيقه ترقب كل طبيب "اللهم بُشرى، اللهم حياةٌ تدب في قلبه، اللهم لا تفجعنا به".

[[{"fid":"71451","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"3":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":380,"width":456,"class":"media-element file-default","data-delta":"3"}}]]

في مستشفى الشفاء، لم نضلّ معرفة إياد الدواهيد (28 عامًا) من مدينة غزة، حينما وجدناه ممددًا على سريره في مستشفى الشفاء، يحتضن قدمه الصناعية التالفة والغصّة تأكل قلبه، فهي العزيزة التي مدت له العون ليُكمل حياته كما الآخرين.

على الحدود الشرقية لمدينة غزة، كان إياد يجلس قليلاً يفك قدمه التي تعرقت، ثم يُركبها ويكمل طريق مقاومته السلمية، حتى وصل إلى السلك الحدودي الشائك، معلقًا علم فلسطين، لم يستطع رؤيته يرفرف طويلاً، حتى اخترقت رصاصة متفجرة قدمه الصناعية، وقطّعت أوردة قدمه السليمة الأخرى.

[[{"fid":"71450","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"2":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":326,"width":580,"class":"media-element file-default","data-delta":"2"}}]]

لم يغب إياد عن أي جُمعة في مسيرات العودة، فكان السبّاق دومًا في الحضور والبقاء هناك طويلاً، وفي جمعة إصابته الأخيرة أصرّ على توديع أمه وتقبيلها، رفضت باكيةً، لكن ذلك لم يمنعه من التبكير كعادته والالتحاق بالآلاف من الفلسطينيين الذين نصبوا الخيام على حدود القطاع مطالبين بالعودة.

قناصة الاحتلال أطلقوا الرصاص على القدم الصناعية لإياد الدواهيد، فاخترقتها وقطعت الأوردة السليمة لقدمه الأخرى

"يعلمُ القناصّة الذين يتمركزون على التلة أن قدمي صناعية، فقد كنتُ أتعمد كشفها لتبدو ظاهرة للعيان، لكنّ يبدو أن ذلك لم يرق لهم فأصابوني بشكل متعمّد، أرادوا كسرَ إرادتي بكسر قدمي، لكن هيهات أن يحدث ذلك" يقول الدواهيد.

اقرأ/ي أيضًا: جريحات في مسيرات العودة.. "لنكون أول العابرين"

يُقسم الدواهيد على الذهاب يوم تعافيه قليلاً إلى مكان دمه الذي نزف منه قرب الحدود، ليعلّق العلم الفلسطيني من جديد، حتى لو رحل شهيدًا، فكُل يوم يزداد الحقد في قلبه على المحتل وهو ينظر بعينيه بلاده السليبة.

تؤكد وزارة الصحة أن قناصة الاحتلال يتعمدون استهداف مناطق هامة في أجساد المتظاهرين، تؤدي إصابتها إلى قتلهم أو تُسبب لهم إعاقة دائمة، أو تؤدي إلى البتر، وهذا ما تؤكده الأرقام التي أفادنا بها الناطق باسم وزارة الصحة في غزة أشرف القدرة، مبينًا أن هناك 1343 إصابة على الأقل في الأطراف السفلية، و152 إصابة في الرقبة والرأس، و إصابة 59 في الظهر والصدر، و72 إصابة في البطن والحوض.

وحتى اللحظة، لا توجد إحصائيات دقيقة حول الضحايا من ذوي الاحتياجات الخاصة نتيجة قمع جيش الاحتلال لمسيرات العودة.

انتهاكات جسيمة يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي على الحدود مع قطاع غزه، باستخدامه سياسة القتل العمد ضد المواطنين العزل من خلال إصابتهم في الجزء العلوي من الجسم، أو استهدافه للأجزاء السفلية بهدف إحداث إعاقة، وفق منسق اللجنة القانونية في مسيرات العودة صلاح عبد العاطي.

لا توجد إحصائيات دقيقة حول ضحايا مسيرات العودة من ذوي الإعاقة، لكن قناصة الاحتلال يُصيبيون المتظاهرين في مواقع تُسبب لهم إعاقات

ويبين عبد العاطي لـ الترا فلسطين أن ذوي الإعاقة الجسدية تحديدًا تبدو عليهم علامات الإعاقة بشكل واضح، إلاّ أن قناصة الاحتلال يستهدفونهم بشكل مباشر دون أن يشكلوا خطرًا على أحد، غير آبهٍ بالاتفاقيات والمواثيق الدولية التي نصت على حماية الأشخاص ذوي الإعاقة سواءً في الحرب أو السلم.

وتنص مواثيق دولية عديدة على حماية المدنيين بشكل عام، وذوي الإعاقة بشكل خاص، ومنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؛ الذي يُعتبر المرجعية الأساسية للقوانين الدولية التي كفلت حق التظاهر والتجمع السلمي لأشخاص ذوي الإعاقة.

يوضح محمد صيام، الباحث القانوني في المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، أن المادة 19 في العهد الدولي الخاص للحقوق المدنية والسياسية؛ تنص على حق أي إنسان في التعبير عن رأيه والاحتجاج السلمي دون تقييد أو ملاحقة، وكذلك اتفاقية حقوق الأشخاص من ذوي الإعاقة لعام 2008 التي نصت على كل الحقوق الأساسية لذوي الإعاقة ووضعهم على قدم المساواة مع باقي المجتمعات، ومن ضمنها الحق في التظاهر السلمي والتعبير عن الرأي.

ويبيّن لـ الترا فلسطين أن الأشخاص ذوي الإعاقة يستطيعون ملاحقة الاحتلال على جرائمه، من خلال رصد الانتهاكات المتعلقة بهم وتقديمها للهيئات الدولية كهيئة الأمم المتحدة، من أجل الضغط على سلطات الاحتلال، وإجبارها على احترام الاتفاقيات والتعهدات في القوانين الدولية الموقّع عليها.

ويشير صيام إلى أهمية إعداد ملفات توثيقية عن الجرائم المرتكبة بحق الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة، وتقديمها للمحاكم الدولية كالمحكمة الجنائية، تمهيداً لملاحقة الجنود الإسرائيليين عن جرائمهم المرتكبة ضد الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة بشكل خاص، والمدنيين السلمييّن الفلسطينيين بشكل عام.


اقرأ/ي أيضًا:

عندما قتل الاحتلال جهاد مقتلعًا عيون شقيقاته

حكاية محمد النجار.. "حتى لا يبرد في ثلاجة الموتى"

ليالي الساهرين على "عتبة البلاد".. صور وفيديو