06-مارس-2018

في الليل يقترب من زوجته ليحتضنها فيتذكّر أنه بلا ذراعين.

الاستيقاظ من النوم أصعب من الخلود إليه، يتفاجأ في الصباح أن ذراعيه في مكانهما، ما الذي حصل في الليل إذًا؟

ينظر إلى ذراعيه بينما يستند عليهما للنهوض من السرير، يؤكدان له وجودهما بإسناده، ولكنهما لا يجيبانه عن سؤاله حول الليلة الماضية.

يترك زوجته نائمة، يسير ببطء نحو غرفة طفله ذو الأعوام الخمسة، يقترب منه كما يفعل كل صباح بذات الطريقة.. يُسقط ركبتيه على أرضية الغرفة بهدوء، يضع يديه على سرير الصغير يُقرّب رأسه من صدره ليتأكد أنّ قلبه يعمل بانتظام وأن أنفه الصغير يمرر الهواء بتناوب ثابت بين الخارج والداخل، يعده بعينيه وعد كل صباح أنه لن يسمح له أن يموت قبله. وأنه لن يتحول إلى جثة.. سيحميه دائمًا وأبدًا.

   تخيفه نشرة الأخبار ولا يُجيد التخلي عنها، تستنزفه عاطفيًا ولكنّه يقاتل نفسه حتى لا يتخلي عنها....  

الأطفال طعام الحروب المفضل، هذا ما يقوله قلبه ولكن لسانه لا يقول إلا: "صباح الخير بابا يلا إصحى من النوم"، تُغيّر كلمة الخير حديث قلبه فيتحوّل إلى استفسارات عن معناها، وهل يستطيع إنسان مثله سمع صوت طلقات الرصاص التي قتلت صديقه أن يثق بهذه الكلمة مجددًا، لقد تمتم  وقتها "خير إن شاء الله" لحجب الأذى، رددها مرات كثيرة ولكنّها لم تحجب الموت عن صديقيه وجاره ورفيقه في لعب الورق كل يوم خميس. كان يعرف أنّه شجاع ولكنّه لم يتخيّل أنه سيموت بهذه السرعة.

الطفل يتثاءب بكسل ويفتح عينيه ليكون والده الجاثم على ركبتيه بجوار سريره أول مشاهد يومه، أمّا الأب فمشهد طفله في السرير ليس ما يراه فقط وإن كان يُرغم نفسه على تكبير شاشة مشهد الطفل حتى يبتسم، ولكن مشاهد ذلك اليوم الذي بدأت فيه الأخبار تؤكد استشهاد شاب لم تُعرف هويته بعد يتداخل مع مشهد الطفل، لم يتخيّل أنّ هذا الشاب هو صديقه؛ يسمع صوته كل يوم ويرى وجهه ويتذكّر رائحة مثبت الشعر الذي كان يستخدمه.

كل يوم يرى مشهد أمه وهي تمرر يدها ودموعها على جثة ابنها، لقد طبخت لنا يداها الكثير من الطعام، وقدمت لنا أكوابًا من الشاي والقهوة وربتت على أكتافنا ونحن ندرس، لماذا تكافئ الحياة هذه الأم بجثة ابنها؟ يتساءل.

أحيانًا يعتقد أنه يبالغ في التفكير في رأي الجمادات ومشاعرها اتجاه ما حصل، فمثلًا، يفكّر في بقايا مثبت الشعر التي ذهبت مع صديقه إلى القبر، لقد لمسها وهو يودعه، هذه البقايا لم تتخيل أنها ستنتهي في القبر، كانت تظن أن الماء الساخن هو النهاية. يلّح طفله عليه أن يعطيه قطعةً من الشوكلاتة إن هو أكل فطوره كاملًا، يهز رأسه بنعم بينما هو يتذكر كيف تقيّأ كثيرًا بجوار أشجار المقبرة.

في المطبخ يفتح باب الثلاجة، لم يكن يتخيّل أنّ فتح باب الثلاجة يمكن أن يتحول إلى عمل شاقّ. ماذا لو كانت الثلاجة خالية ماذا سأقول لصغيري الجائع؟ يأتي صوت زوجته "صباح الخير"، الخير مرة أخرى! تخيفه هذه الكلمة. تخبره أن عليهما الاقتصاد قليلًا في الأيام القادمة؛ فالرواتب قد تتأخر هذا الشهر. يوافقها الرأي دون أن يتكلم.

يريد أن يثأر لصديقه ويذهب بعدها مباشرة إلى منزله يقبل يد الأم الثكلى لعلّه يخفف من الحزن الذي سكنهما منذ لمسا الجثة. ولكنّه يريد أيضًا أن يبقى أبًا لصغيره، لقد وعده أن يحميه من الموت ومن الحياة. عليه أن يجد حلّا لتأخّر الرواتب، هل يبحث عن عمل إضافي أم يشارك في المظاهرة وسط البلد؟ هل يتجاهل أجندة الممولين وخفايا نوايا المؤسسات غير الحكومية ويعمل معها؟ أم هل يُثَبّت نفسه أكثر بوظيفته الحكومية بتقديم  الولاء للحزب الحاكم، عليه فقط توقيع ورقة انتساب لا تلزمه بشيء إلا اقتطاع نسبة ضئيلة من راتبه شهريًا لصندوق الحزب، هذا التوقيع وهذا التبرع قد يضمنان له ترقية ما، أو زيادة ما تفيد مستقبل صغيره. يستطيع أن يسافر أيضًا.

يبدأ المذيع بقراءة نشرة الأخبار، فيرفع صوت المذياع في السيارة. تخيفه نشرة الأخبار ولا يُجيد التخلي عنها، تستنزفه عاطفيًا ولكنّه يقاتل نفسه حتى لا يتخلي عنها، أحيانًا  تفقده نشرة الأخبار رأسه برصاصة قنّاص فيصحو مذعورًا يبحث عن رأسه. وأحيانًا تُبتر بعضًا من أطرافه فلا يستطيع أن يحضن أهله، تجعله النشرة وحيدًا بلا بيت، في الشارع والناس يرمون عليه عملات نقدية مختلفة. وأحيانًا تلتهم نشرة الأخبار بشكل مفاجئ ابنه كما التهمت صديقه من قبل.


اقرأ/ي أيضًا:

مغلوب وغالب.. الذاكرة الشفوية في مواجهة المكتوبة

الروبوت التعليمي.. لمتعة وفائدة أطفالكم

أبناؤك ليسوا تجربة!