03-يونيو-2018

في آخر شهقات أيار، طلعت الشمس في بلدة "خزاعة" على نفس التفاصيل: علمُ "إسرائيل" يلوح فوق تلةٍ يختبئ خلفها القناصة، وعلى الطرف الثاني من السياج شبّانٌ فلسطينيون يحاولون جذب السلك الشائك عبر مرساة صيد. المسعفة رزان النجار، كانت ترقب إشارات الجنود السخيفة للشبان من على بعد 50 مترًا، تحرك رأسها بازدراء قائلة: "تبًا لكم، لوّثتم وجه الصباح بضحكاتكم العكِرة".

كانت الأوضاعُ هادئةً نسبيًا صبيحة الخميس، اقتنصت رزان من نهار الدم الجديد على الحدود خمس دقائق برفقة قريبتها المسعفة المتطوعة وفاء، سألتها: "أينقص حقيبتك شيء؟ لدي الكثير من القطن والشاش والله"، هزّت الفتاة العشرينية يدها دلالةً على أن حقيبتها عامرة، وعادت الاثنتان تمسحان بعينيهما المكان بحثًا عن إصابةٍ هنا أو هناك.

رزان النجار لـقريبتها قبل الشهادة: لماذا لا نكتشف أننا نُحب بعضنا إلا بعد أن نموت؟

شقّت رزان هيبة ذلك الصمت بسؤالٍ غريب وجّهته لوفاء: "أتحبينني؟"، شهقت وفاء وأجابتها مستهجنة: "ماذا تقولين؟ طبعًا أحبك.. كلنا نحبك يا رزان". أسدلت رزان جفونها تحاول تجميع العبارة: "إذًا لماذا نخبئ هذه الكلمة إلى ما بعد الموت دائمًا؟ لماذا لا نكتشف أننا نحب بعضنا إلا بعد أن نموت؟". ضحِكَت وفاء وقاطعتها معلقةً: "يبدو يا رزان أن مسيرات العودة ستنتهي وقد ظهرت في غزة فيلسوفةٌ حكيمةٌ جديدة". الحديث لم يكتمل، فقأَت عين الصباح رصاصة! ابتسمت رزان وهمسَت في أذن وفاء: "لا تكترثي" ثم انطلقت كغيمةٍ حبلى بالعطاء نحو إصابةٍ جديدة.

[[{"fid":"72217","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":380,"width":554,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]

[[{"fid":"72218","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"2":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":380,"width":570,"class":"media-element file-default","data-delta":"2"}}]]

غيابٌ لأول مرة

كانت رزان تنظر إلى شهداء العودة على أنهم "أحلام طُمرت في قبورٍ بلا شواهد"، تأسفُ كثيرًا بعد أن تقرأ قصصهم عبر مواقع الانترنت، "عندما تلاحظ أن الصحفيين يركزون على وصف ملامح الجندي الذي ضغطت يده على الزناد، ولا يحدثون العالم عن عقليته القذرة التي أمرت يديه بفعل ذلك؟" وفق تعبيرها.

اقرأ/ي أيضًا: مُسعفة بقدم مكسورة وضغط مزمن و"هيموفيليا"

تقول وفاء لـ الترا فلسطين: "أُصبتُ ذلك اليوم بقنبلة غازٍ في ساقي، فقالت لي: هذا حلمٌ فلسطيني جديدٌ أصيب. الحمد لله على سلامتك (..) كل ما أذكره أن رزان كانت تسعل بقوة، نظراتها كانت مشروع بكاء، لكنها ابتلعت غصة وذهبت".

السادسة من صبيحة اليوم التالي "جمعة من غزة إلى حيفا"، وصلت لهاتف وفاء النجار رسالة: "رزان! ما الذي أيقظها في هذه الساعة المبكرة؟". تساءلت متعجبة بعد أن قرأت نصها يقول: "لا تذهبي إلى الميدان اليوم، ارتاحي في البيت، وانتبهي لإصابتك.. هناك من يؤدي المهمة".

تضيف، "اتصلتُ حينها بالرقم، فإذا بها ترد، كان صوتها دافئًا جدًا لا ينغصه إلا توالي الكُحة، قلتُ لها: "تبدين متعبة، هل ستذهبين للمخيم اليوم؟ فأجابتني بحزم: لا لا لن أذهب، أشعر بتعبٍ شديد، يبدو أنه التهاب في القصبات الهوائية، سأبقى اليوم".

في يوم استشهادها لم تكن رزان النجار تنوي الذهاب إلى الحدود، وطلبت من أمها "بسبوسة" على الإفطار

ضحكت وفاء وعلّقتُ مُمازحة: "أخيرًا جاء السبب الذي سيجعلك تتغيبين عن المخيم. لكن كيف ستحتملين المكوث يومًا كاملاً في البيت بعيدًا عن رائحة الغاز وأصوات الرصاص؟ لا لا أنا لن أصدق أنك لم تذهبي إلا إذا كلمتني مع أذان المغرب لتؤكدي الأمر، ردّت رزان بفضائل قل أعوذ برب الفلق وضحكاتٍ متقطعة: يا لطيف، أصلاً كله من عينك".

"بسبوسة" من يد أمي

في كواليس المشهد ببيت والدها أشرف النجار، كانت أمها للتو أنهت قراءة جزءٍ من القرآن، عندما سمعت مكالمتها مع وفاء. هذا أول يومٍ ترى فيه أم رزان ابنتها بعد الثامنة صباحًا داخل البيت منذ انطلاق مسيرات العودة الكبرى نهاية آذار/ مارس الماضي، راحت تجري نحو غرفتها سائلة: "نفسك بشي يا ماما على الفطور أعملك إياه"، ابتسمت رزان وردّت: "نفسي بالبسبوسة من إيديكي الحلوين يا ماما".

اقرأ/ي أيضًا: حكاية محمد النجار.. حتى لا يبرد في ثلاجة الموتى

مرّ النهار مسرعًا، في الغرفة الضيقة كانت رزان مضطرة لسماع تمتمات حفظ أختها ريعان ابنة الثانوية العامة، وهي تحضّر لامتحان الغد. كانت على سريرها كمن يفترش الجمر تراقب ساعة يدها الزرقاء، تجلس، ثم تتمدد، ثم تقوم، ثم تقعد، تضفي جوًا من المرح بعد أن تُخرج الأطقم الخمسة التي اشترتها لعيد الفطر أمام ريعان المحبوسة في غرفتها منذ دهرٍ بتهمة "التوجيهي". ترتديها تباعًا، وتجرب الإكسسوارات عليها، ترمقها ريعان بنظرة غبطة، وتقول: "يا لئيمة، ليش ما جبتيلي مثلهم؟"، فتجيبها الثانية مداعبةً: "لأنك مستحيل تحبي الإشي الناعم،ـبعرفك دفشة"، تضربها الأولى بالوسادة، تصرخ رزان ويعلو الصوت، فتنادي الأم من بعيدٍ بكلمةٍ واحدة: "ريعان.. أدرسي".

تمام الثانية والنصف ظهرًا. صينية البسبوسة تنتظر دخول الفرن، والأم على سجادة الصلاة تقرأ الدعاء، صوتُ خطواتٍ من خلفها وقبلةً على الرأس، التفتت أم رزان فإذا برزان جاهزة! "ألم تقولي إنك لن تذهبي للمسيرة اليوم؟"، أجابتها: "أشعر بتحسّن، ولا تقلقي، لن أتأخر طالما أن البسبوسة حاضرة"، ضحكت في محاولةٍ لاستجلاب رضا أمها التي تغيرت ملامحها قليلاً، وما زالت تحاول حتى سمعتها من فمها أخيرًا: "الله يسهل عليكي يا حبيبتي".

تقول الأم لـ الترا فلسطين: "أغلقت رزان الباب.. كانت مستعجلة، شعرتُ أن شيئًا ما ضاع مني والله، فانطلقت نحو الشرفة أناديها لكنها غابت فجأة". سألتُها، ماذا كنتِ تريدين منها؟ أجابت بصوتٍ يرتعش وسط نزف الدموع: "كنت بدي أقول لها إرجعي.. خليكي معي اليوم بس".

"شعرت أني فقدت شيئًا ما" تقول أم رزان النجار عن لحظة خروج ابنتها إلى الحدود في يوم استشهادها

عند الحدود، رمت رزان - التي خضعت لدورات مكثفة في الإسعاف الأولي - حقيبتها بعد أن أخرجت ما فيها من أدوات قرب باب خيمة الإغاثة الطبية حيث تعمل متطوعة، ارتدت درع الإغاثة، ومريولها الأبيض، وانطلقت نحو السلك، صوب صوت دويّ الوجع.

"الوقت مش مهم"

قبل أذان المغرب بساعة، صادفَت أسعد، هو أيضًا مُسعفٌ من بلدة خزاعة. التقيا عند شابٍ أصيب برصاصةٍ في ساقه، كانت متوتّرة جدًا وهي تحاول وقف النزيف، فخلعت ساعة يدها، وأعطتها لأسعد. قالت له: "خليها معك.. الوقت مش مهم". أخذها ووضعها في جيبه، وغادر نحو إصابةٍ أخرى.

اقرأ/ي أيضًا: ماذا قال فنان البحر لصديقه قبل أن يستشهد؟

عدة دقائق، وسقط شابٌ قرب السلك تمامًا، هرولت رزان نحو فريق الإغاثة تنادي زميلها محمود عبد العاطي: "تعال يا محمود في إصابة عند السلك". نظر إليها كمن يقول: "إنتِ بدك تغامري فينا كلنا"، ضحكت وأجابته، "تعال، إنت ولا مرة تصاوبت من أول المسيرات، تعال بلكي استشهدنا أنا وإنت هالمرة سوا".

انطلق الاثنان، ومعهما رشا قديح ومحمد ورامي أبو جزر، يرتدون زي الإسعاف ودروع الإغاثة، اقتربوا من الجنود رافعي الأيدي حتى يتسنى لهم سحب الإصابة. كانت المسافة بينهم وبين الجنود بالكاد تصل إلى 15 مترًا، سمعَتهم رشا يقولون بالعبرية شيئًا لم تفهمه، ثم انهالت فوق رؤوسهم قنابل الغاز، فعادوا أدراجهم تحاصرهم رائحة الغاز وتحوم في عقولهم أطياف شهداءٍ سبقوهم هنا.

قبرٌ لـ "حلم" جديد

أفاقت رزان من إغماءةٍ قصيرة بعد ربع ساعة، نظرت ناحية الإصابة فإذا بالشاب وحده يصرخ، قالت: "لنعُد إليه". عادوا بنفس الآلية، رافعي الأيدي بزيّهم الطبي يؤشرون بأيديهم نحو الشاب المصاب فقط، لكنهم لم يعلموا أبدًا أنهم هذه المرة كانوا في طريقهم إلى قدرٍ كُتِبَ ونَفَذْ.

أصاب رصاص جنود الاحتلال، رزان النجار في قلبها، عندما كانت تُحاول إنقاذ مصابين قرب السياج الفاصل

إطلاقُ نارٍ مباشر تهاوت بعده الأجساد في نفس المكان الذي شهد بداية الحكاية، أصاب الرصاص محمود ورشا كلاً منهما في ساقه وذراعه، ورامي أصابت رصاصةٌ حيةٌ قدمه. أما رزان، وجه الحلم الفلسطيني العظيم أصابتها واحدةٌ في القلب لتمرّ بكل الأمنيات وتخرج من الظهر بشهقة احتضار.

[[{"fid":"72219","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"3":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":326,"width":580,"class":"media-element file-default","data-delta":"3"}}]]

رزان لن تزور القدس، ولن تستطيع أن تجمع المال لدراسة التمريض. لن تأكل "البسبوسة"، ولن تشتري لـ ريعان ملابس العيد بعد انتهاء الامتحانات. رزان حلمٌ فلسطينيٌ آخر طُمِرَ في قبرٍ بلا شاهد.

كانت جنازة رزان مهيبة، مسعفون جاؤوها من كل حدبٍ وصوب، ومصابون ساهمت في علاجهم مرة، رجالٌ لا عدّ لهم شاركوا وهتفوا على طول المسار نحو المقبرة، وعلا صوتهم عندما مروا بجسدها لآخر مرة من مخيم العودة؛ على مرأى الجندي الذي قتلها ووقف كسيلٍ مزهوٍ بجبروته بعد أن شوّه وجه الأرض. نعم، نادوا باسم رزان، وهتفوا بـ "تحيا فلسطين"، أمام من يحبون الفلسطيني "ميتًا" فقط، دون أن يعرفوا أنهم يصنعون من كل ميتٍ هنا بطلاً يحبه الله فيحبّب فيه خلقه.


اقرأ/ي أيضًا:

عندما قتل الاحتلال جهاد مقتلعًا عيون شقيقاته

زقاق المخيم لن يضج بفطبول محمد أيوب بعد الآن

مسنون على الحدود.. دليل الثوار لطريق العودة