24-ديسمبر-2019

مقال رأي | 

إذا جئت إلى هذا المكان مضطرًا فتلك ورطة صغيرة، لكن الورطة الأكبر هي أن تسمح للمكان بأن يبتعلك ويحوّلك إلى ناطق باسمه، إذا أردت أن تهزم المكان حاول أن تُقنع نفسك أنّك في سجن، السجّان هو وزارة التربية، والمدير هو مدير السجن، المعلمون سجناء مثلك، والتلاميذ كذلك، أمامك خياران، أولهما أن تجلس على الطاولة محدّقًا في الجدار بيدك عصا تهشّ بها على ضجيج 50 سجينًا في الغرفة، تنتظر مرور 30 عامًا وهي مدة العقوبة وتخرج من السجن، والخيار الثاني هو أن تغنّي، نعم تغنّي، أنا لا أمزح، حتى لو كان صوتك بشعًا، قل للطلاب مرحبًا ثم اشرع في الغناء، سيضحك الطلاب وقد يرمونك بالطباشير والمماحي، سيتهمك الزملاء الناطقون باسم بالمكان بالعته، وسيقولون لبعضهم البعض في الممرات وهم يجرجرون جثثهم نحو الحصة السادسة: معلم فاشل آخر، لن يصمد أكثر من أسبوع.

اخذلهم يا هذا، إيّاك أن تترك المكان وتذهب إلى المجهول، اصمد، وابدأ في التفكير في ما يسلي  الطلاب ويسليك؛ يفيدهم ويفيدك.

احكِ للطلاب قصص حياتك الغريبة أو قصّة حياة صديقك غير القابلة للتصديق، اربط القصص بالأمهات والأصدقاء والشهداء، أقرب الموضوعات للقلب والصمت، ابحث عمّا يجعل الطلاب يصمتون، من تجارب حياتية وذكريات وقصص آخرين، اطلب منهم أن يحكوا قصصهم، تحمّلهم وهم يضحكون على قصص بعضهم البعض، استفزّ الجانب الجدي في حياتهم، ابحث عنه بذكاء إذ أن الجدية شبه مطمورة بالكامل داخل شخصياتهم العطشى للجنون والتحطيم، داخل كل طالب ساخر ومتنمّر ثمّة قصة حزينة، انبش حولها بهدوء.

          كل طالب فلسطيني داخله تختبىء قصة دم وظلم، كل طالب يحتاج إلى شخص يسمعه ويشاركه الحكي       

سأحكي لك قصتي: يومًا ما دخلت أول المدارس منتصف التسعينيات، من نافذة صف في طابق ثان سمعت طالبًا يصيح: شوفوا هالأستاز الجديد، شوفوا شعراته كيف؟، ارتعبت، وهربت إلى غرفة المدير وأخبرته بما سمعت. ضحك المدير طويلًا، وضحك معه مفتّش كان هناك بالصدفة يستعدُّ لتفتيش ملابس سجين يجلس الآن في غرفة المعلمين متعرّقًا يحاول أن يكتب تحضيرًا سريعًا لحصة لا يحبُّها، دخلت أول صف في حياتي، سبقتني طبشورة ارتطمت بأنفي، خرجت بسرعة، وعدت بسرعة مدفوعًا بأيدي المدير وهو يحاول تشجيعي: ادخل وأثبت أنّك قوي، قال لي. دخلت وصحت في الطلاب: اسمعوا أنا إذا ازعلت بدمّر الدنيا، انهالت الطباشير والضحكات، على ملابسي جلست على الكرسي، مُحطّمًا.

- شباب لو سمحتوا يعني انتو واليهود عليّ؟! صمت الصف، جمد الطلاب، تابعت:

على "محسوم" - حاجز عسكري احتلالي- أوّل المخيم تعرضتُ لصفعة من جندي، احتاج هدوءًا، لو سمحتوا.

وقف أحد الطلاب بصوت منخفض: أستاذ ليش ضربوك؟

وحكيت لهم الحكاية من أول شهداء ثورات ما قبل النكبة وحتى حكايات الانتفاضة الثانية شهداء ومعتقلين وجرحى، الصمت الذي ساد أخافني، تمنيّت لو يتحركون ويعودون للمشاغبة، قالوا لي حكايات أجدادهم وآبائهم واأشقائهم، وأبناء جيرانهم الذين استشهدوا أو اعتقلوا، تذكّر يا صديقي المعلم الشاب أنّ كل طالب فلسطيني داخله تختبىء قصة دم وظلم، كل طالب يحتاج إلى شخص يسمعه ويشاركه الحكي. هذا أول الدروس يا صديقي، اسمع حكايات الطلاب، واطلب التفاصيل، ستجدهم أصحابًا لك قريبين ومبدعين.

صرت معلمًا آخر، غير الذي كاد يهرب، وهذه حكاية أخرى: دخلت أحد الصفوف، كان الطلاب يستقبلوني بالتطبيل على المقاعد، فكّرت طويلًا قبل أن أهرب، لم لا أحوّل هذا الشغب إلى عمل فني وإبداعي.

- تحبّون التطبيل صح؟

- جدًا يا أستاذ.

- وأنا أحبّه أيضًا، لم لا نحوّل التطبيل إلى ممارسة صباحية موسيقية منظمة؟

-كيف يا أستاذ؟

- ادخل عليكم كل صباح وأصيح: (حُبّ حُبّ حريّة،) وأنتم تطبّلون فقط خمس مرات، مع الهتاف: (حُبّ حُبّ حريّة) ولكن هناك شرط وهو أن لا نكرر التطبيل في حصص أخرى، وأن تقتصر عدد التطبيلات على خمسة.

وافق الطلّاب بحماسة، ومن يومها وأنا أستمتع معهم بالتطبيل المنظّم الملحّن والمترافق مع هتاف الحبّ والحُريّة.

صديقي المعلّم الشاب: تذكّر دائمًا أنّ الطالب الفلسطيني هو حكاية تختلف عن حكايات الآخرين، وأنّ الصف ليس كتلة صمّاء، في الصف أربعون قصة. تعامل معها باهتمام وحُبّ، هنا مفتاح  العلاقة الرائعة مع الطالب: أن تسمعُه وتُشعره أنّك تثق به وتحترمه.


اقرأ/ي أيضًا: 

مات المعلم الذي صار صديقي

ملعقة في حقيبة مدرسية

لقاء مع رئيس البلاد