25-أكتوبر-2019

"إن في القراء جهالاً تُهيّج أعصابهم تلك المقالات والخطب وإن كانت صادرة عن شعور صحيح ومستندة إلى حقائق. ولهذا فالحكومة تعد كل جريدة تنشر شيئًا من هذا، حقًا أو باطلاً مسؤولة معرضة للعقاب".

دائمًا ما تحرص بعض "الحكومات"، سواء المُستعمِرة أو المُستعمَرة على مواطنيها، فتحجب عنهم كل ما يهدد "الأمن القومي والنظام العام"، أو كل ما "يهيج أعصابهم"، لكن تتفاوت الحكومات في السرعات، فبعضها يمشي الهوينا، فيجتمع الضابط/ الرقيب/ المراقب/ مدير المطبوعات/ مدير النشر مع أهل القلم ليحذرهم من خطورة ما ينشرون، مهددًا ومتوعدًا، وإن لم يلتزموا يستدعي ويهدد، ثم يستدعي ويهدد، ثم يحذف خبرًا، وبعد حين يحجب، فيما بعضها الآخر يستكفي بجرة قلم ليحجب من غير إشعار أو سؤال، وكأن الكائنات التي تكتب وتقرأ وتقتات من عدم.

لفت انتباهي من جديد ما سبق وأشرت إليه سابقًا من محاصرة السلطة الاستعمارية لأكرم زعيتر في الصحافة، وقرارها بسجنه، ونفيه، وأعدت قراءة نصوص زعيتر عن لحظات الحجب، ووجدت أنه يكتبني

عادة لا أحب أن أكتب في الراهن، لكن بينما كنت أتنقل بين طيات يوميات أكرم زعيتر، وبين الصحف التي تنقل توقيعه "ابن الصحراء" أو "عربي" أو "كاتب وطني غيور" على صفحاتها خلال فترة الاستعمار البريطاني لفلسطيني، عمومًا، وخصوصًا فيما نشر قبل انطلاقة ثورة الفلسطينيين الكبرى، عدت لمراجعة ما كتبت عن زعيتر من مقالات في الترا فلسطين، لأتجاوز التكرار، لكني يا للأسف لم أستطع لأن أحدهم قرر باسمي وباسم آخرين أن هذه النافذة مهدد للأمن القومي.

اقرأ/ي أيضًا: أكرم زعيتر: بواكير قيامة البنادق

عدت لزعيتر لأكتب وفقًا لجدولتي الأولية لسلستي عنه وعن نصوصه، لكن لفت انتباهي من جديد ما سبق وأشرت إليه سابقًا من محاصرة السلطة الاستعمارية لأكرم زعيتر في الصحافة، وقرارها بسجنه، ونفيه، وأعدت قراءة نصوص زعيتر عن لحظات الحجب، ووجدت أنه يكتبني.

دوّن زعيتر يوم 22 نيسان/ أبريل 1931، "أحسست اليوم بحرية كنت محرومًا منها. سأكتب بعد الآن مقالاتي بتوقيعي الصريح". محتفيًا بانتهاء حكم مراقبته وإقامته الجبرية، وعاد زعيتر الذي لم ينقطع عن الكتابة الصحفية بأسماء حركية تجنبًا لمقص الرقيب والسلطات الاستعمارية. ليبدأ محطة جديدة في حياته الصحفية من خلال مشاركة خير الدين الزركلي في صحيفته الحياة، فبدأ زعيتر من حزيران/ يونيو 1931 بتحرير أعداد الصحيفة، متخذًا منها منبرًا لمعركته مع المشروع الاستعماري في فلسطين، ونافذة تبرز الظلم المعاش في فلسطين وتجابهه.

خلال شهر آب/ أغسطس التالي ضجت فلسطين عمومًا، ونابلس خصوصًا بثورة عارمة انطلقت بعد مؤتمر انعقد في نابلس للتنديد بتسليح الصهاينة، تابعت صحيفة الحياة موجة الثورة، ولم يكتف زعيتر بذلك فكتب يوم 28 آب/ أغسطس في يومياته:

"يشغل بالي أمر واحد. نابلس ثارت، فقلت: هذه بداءة ثورة عارمة على الظلم البريطاني. الحركة في نابلس مستقيمة الاتجاه، فقلت: إذن هذه انطلاقة نحو الهدف الاستقلالي. وتوقعت أن تتجاوز غضبات المدن الأخرى البرقيات الاحتجاجية ووفود المواساة لزيارة الجرحى وعبارات التحية والتشجيع لأحرار نابلس. وخطر على بالي أن ادعو المدن الأخرى إلى أداء واجبها الثوري، وفكرت في عاقبة مثل هذه الدعوة، ثم قررت أن انفذ ما صممت عليه، ووضعت نصب عيني جميع احتمالات الاضطهاد من قبل السلطات البريطانية، وعليه فقد كتبت هذا اليوم افتتاحية بعنوان: والمدن الأخرى".

لم يطل صبر الحكومة الاستعمارية وعقلها الأمني على زعيتر، وكانت سبقت مقالته هذه ونصوصه التالية لها بدعوة أصحاب الصحف لاجتماع كان بعض ما قيل فيه ما نشر في الاقتباس الأول. احتج أهل الصحف وقرروا الاحتجاب الطوعي لأسبوع، فاحتجبت الصحف الفلسطينية أسبوعًا، وكتب خير الدين الزركلي صاحب الحياة عن هذا الاحتجاب يوم 10 آب/ أغسطس 1931:

"تحتج الصحافة العربية في فلسطين، احتجاجها الصامت السلمي هذا، لتوضح للسلطة أولاً، وللأمة ثانيًا وأمام العالم كله أخيرًا، أنها قد حملت بما لم تطق، وأريد بها مالا يصح السكوت عليه، وإنها لمّا تقو على الجهر المطلق، استعاضت عنه بالصمت المطلق، وكلاهما مفصح مبين، معرب عن الغاية، دال على ما في النفوس، أرادت السلطة، وأرادت الصحافة، وبين الإرادتين ما هنالك من فوارق، فتكلمت تلك، وصمت هذه".

استدعى مدير الأمن في الحكومة الاستعمارية زعيتر مطلع أيلول/ سبتمبر 1931، وحذره من السير في خطة النشر، محذرًا بأنه سيطبق المادة التاسعة من قانون جرائم الفساد التي تقضي ربط زعيتر بكفالة مالية. حفزت الكلمات كما يبدو زعيتر، فقرر المضي قدمًا، وكان أول المضي حطموا الأقلام.

كتب زعيتر باسم الحياة بعد سرد ما حدث: سنقول كلمتنا في العدد القادم، وزين باقي الخبر بأبيات لخليل مطران:

حطموا الأقلام هل تحطيمها .. يمنع الألسن أن تنطق جهرًا

قطعوا الألسن هل تقطيعها .. يمنع الأنفاس أن تصعد زفرًا

اخمدوا الأنفاس هذا جهدكم .. وبه منجاتنا منكم فشكرًا

كما توقع زعيتر وصله إشعار من نائب حاكم مقاطعة القدس يدعوه للمحاكمة على بعض مقالاته في الحياة، لما تحويه من بيانات من المحتمل أن تهيج الرأي العام. حجبت الحياة في 5 أيلول/ سبتمبر 1931، وبدأت محاكمة زعيتر.

دوّن زعيتر في يومياته، "أيقنت أنني امام اضطهاد جديد، فهيأت نفسي له، وقررت أن تكون افتتاحيتي القادمة: إذا أغلقت الصحف، فالإرهاق صحيفة منشورة تحدث عن نفسها"، وكما توقع زعيتر وصله إشعار من نائب حاكم مقاطعة القدس يدعوه للمحاكمة على بعض مقالاته في الحياة، لما تحويه من بيانات من المحتمل أن تهيج الرأي العام. حجبت الحياة في 5 أيلول/ سبتمبر 1931، وبدأت محاكمة زعيتر.

كتب زعيتر مودعًا:

"هذه الجريدة تعبر فيما تكتب عن رأي الأمة بإرادتها فإذا جمحت أقلام كتابها فلأن الأمة جامحة، وإذا استروحت السلطة مما يكتب فيها رائحة سياسة استقلالية صريحة لا لبس فيها ولا إبهام فلأن الأمة تريد أن تسلك هذا السبيل في جهادها، وإذا قرأت السلطة في هذه الجريدة سطور التذمر والغضب والنقمة والسخط فلأن الأمة العربية الفلسطينية متذمرة من الخسف غاضبة على الجور ناقمة من الظلم ساخطة على الاستعمار. وإذن ننصح للسلطة إذا أرادت أن لا تسمع صوتًا كهذا الصوت المرتفع من منبر هذه الجريدة أن تقطع لسان كل عربي مخلص فذلك أولى لها من قطع لسان واحد إذا قطع انطلقت السنة أخرى ولكن ما أشدها".

قانون منع الجرائم، قانون جرائم الفساد، هل تظن السلطة أن هذين القانونين كافيان للحيلولة دون ارتفاع الصوت الحر؟ وهل تظن بأن المخلص الجريء إذا أراد أن يقول كلمة وآمن بأن في قولها نفعًا لأمته وخيرًا لبلاده يهاب الوعيد ويؤثر السكوت.

مضى زعيتر ولم يصمت، ولو كان بيننا اليوم لأضاف قبل "قانون منع الجرائم، قانون جرائم الفساد"، "قانون الجرائم الإلكترونية"، ولفعّل "بروكسي" ليشارك المقموعين المقهورين مقاله، بدلاً من يتكنى باسم حركي، ولا حول ولا قوة إلا بالله!.


اقرأ/ي أيضًا: 

خطيئة حجب المواقع الإلكترونية

تعامل السلطة مع الإعلام: محاولة لفهم الجنون

المحامي نصرة: حجج النيابة العامة في حجب المواقع "ضعيفة"