22-أبريل-2018

لحظة استشهاد الطفل محمد أيوب | صورة: عبد أبو الريش (Getty)

الشمسُ هنا مرةً أخرى، لقد جاءت تزور ذلك الزقاق خلسةً عن عيون الأمل في "حواديت العجائز" بمخيم جباليا للاجئين، شمال قطاع غزة، لتزيد على عمر "النكبة" يوم.

الجارة أم عبد الله تخرج رأسها من "طاقة" صغيرة لتنادي "محمد أيوب": حبيبي يا خالتي، بلاش لعب بالكرة تحت الشباك، امتحانات التوجيهي قربت، وعبد الله بيدرس.

 كانت أمه تجهّز وجبة سمك لغداء "الجمعة"، يُلقي محمد بالكرة جانبًا، وينادي أمّه متذمّرًا: "يمّا، أنا رايح اليوم عالمسيرة، بدنا نرجّع "برير" غصب عن عين اليهود"... قتلته رصاصة قنّاص 

ابن الثلاثة عشر عامًا ضاق ذرعًا بقوانين "المخيم"، هناك يمنعك "نصف متر" يفصل بين البيت وأخيه؛ من أن تضحك حتى بصوتٍ عالٍ! قال "حاضر"، ركل الباب بقدمه ودخل ينساب نحو صوت فرقعة الزيت المغلي ورائحة الثوم والليمون تفوح من المطبخ.

اقرأ/ي أيضًا: قالوا عن استشهاد الطفل أيوب

كانت أمه "رائدة" (43 عامًا) تجهّز وجبة سمك لغداء "الجمعة"، يُلقي محمد بالكرة جانبًا، وينادي أمّه متذمّرًا: "يمّا، أنا رايح اليوم عالمسيرة، بدنا نرجّع (برير) غصب عن عين اليهود" (قرية مهجّرة تقع على بعد 21 كيلومترًا شمال شرق غزة)، ترمقه أمه بنظرةٍ غاضبة: لن تذهب اليوم إلى أي مكان، ستهتم بدراستك أكثر، ألم تعدني بأنك ستنجح وتذهب إلى الجامعة؟، يهز الطفل رأسه وهو الذي شعرَ بأن المسافة بين واقع الحياة داخل هذا المخيم و"حلم أمه" لا تزال طويلةً جدًا! تمتم: إذا لم تعد برير حتى ألتحق بالجامعة، فهذا يعني أنني لن ألعب الكرة أبدًا.

أخبرته أم محمدٍ بأنّ لأهلها وأهل أبيه هناك أراضٍ خضراء واسعة "يرمح فيها الخيل"، كانت القرية تزوره في منامه كثيرًا، فيجري ويلعب هناك بعيدًا عن "أغلال" زقاق المخيم.

وجّهت نظرها نحوه وطلبت منه مساعدة، فزوج أختها سيحل ضيفًا على الغداء اليوم أيضًا، ضحِكَ وبدأ يرتّب الوسائد وفراش الضيوف بينما إخوته في الداخل نيام، قال لها ممازحًا: أمي.. يجب أن ننظف البيت جيدًا، أشعر بأن أقاربنا (سكان بيت لاهيا) سيزوروننا اليوم، أرجّح حدوث اجتياح إسرائيلي لمناطق الحدود، ولهذا علينا أن نستعد لاستقبالهم كما فعلنا في الحروب الماضية.

كانت همّته في ذلك اليوم عاليةً حدّ "الرضى" في دعوات أمه. أعدّ عصير الليمون، وقرّر "حسب أجندته اليومية" مشاكسة أبيه "سهل الاستفزاز".

والدة الشهيد محمد أيوب
والدة الشهيد محمد أيوب

استغل "محمد" انشغال أمه بقلي البطاطا، وتركيز أبيه ناظريه نحوه، ثم بدأ يسحب الأصابع تباعًا من الطبق! ردعه والده بنظرةٍ فلم يستجب، رقّص الطفل حاجبه الأيمن، وعاد يلتهم أصابع البطاطا في مجموعات. قفز الأب من فراشه وهجم نحوه فإذا بالطفل يختبئ في الحمام وقد غصّ بلقمته من كثرة الضحك: "آسف، والله آسف"، والده الذي كان يضحك على طريقته في الكلام والبطاطا تكاد تطبق على نفسه، عدّ لخمسة فإذا بـ محمد يفتح الباب. يعانق أبيه طالبًا السماح فيلف الأخير عنقه بكوعه، ويضحكان معًا.

والده إبراهيم أيوب، لم يكن يعلم أن هذه الضحكات ستصبح "ذكرى" بعد ساعتين فقط، وأن "محمد" سيغادر المخيم إلى مكانٍ أوسع بكثيرٍ من "برير". سيغادره شهيدًا على عتبات "حلم العودة" عند الحدود الشرقية لمدينة جباليا شمالًا.. حيث هناك، وبتاريخ (الجمعة 20 نيسان/ أبريل 2018)، استقرّت في رأسه رصاصةً فتتت دماغه –حسب المسعف ابن عمه معتز- الذي كان هناك مصادفةً ينقل الجرحى.

الطفل محمد أيوب - ملامح طفولة واضحة
الطفل محمد أيوب - ملامح طفولة واضحة

أوفى بعهده بعد ساعة!

في ذلك اليوم كرر "محمد" طلب المشاركة في المسيرة على مسامع أمه أكثر من مرة، سيما وأنها سمحت له خلال الجمعتين الماضيتين بالمشاركة استنادًا إلى سلمية المسيرة واطمئنانها إلى أنه سيكون في "عهدة أبيه"، أصرّت هي على الرفض قالت له: سآخذك معي إلى بيت جدك نزور الأهل هناك، وعدتني بأن تدرس، أجابها من جديد وقد بدأ يضرب قدميه بالأرض: "خلص وعد، راح أبدا السبت، وراح أنجح، بس خليني اليوم أروح". كان رفض أمه آخر مرةٍ حازمًا "لاء يعني لاء".

خلال الغداء، احتفظ الصغير بلسانه داخل فمه على غير العادة، وبدأ يرفع الأطباق مع أمه إلى المطبخ "دون أن تطلب منه"! وجهّز نفسه للخروج معها، ارتدى قميصًا بلون العنّاب، وبنطالًا "بين الأبيض والسمني" ووضع على شعره "الجل". في الطريق نحو بيت لاهيا شمالًا، وجد باصات الهيئة الوطنية العليا "المنسق الرسمي لمسيرات العودة" تنتظر، سأل أمّه لآخر مرة: "أروح؟"، هذه المرة اكتفت بالنظرة فسكَت.

عند بيت الجد تزاحمت الأحاديث فوق سطح البيت، هذا يضحك وذاك يخبرهم قصة، انسحب محمد نحو الأسفل فإذا بزوجة خاله تلاقيه عند السلالم:

  • لوين يا محمد؟
  •  خبري أمي إني رايح ع المسيرة، وراجع بعد ساعة.
  • استنّى يمحمد، رح أخبرها، ويا ويلك.
  • مشان الله، قوليلها محمد آسف.. راجع بعد ساعة.

بالفعل، بعد ساعة عاد "محمد" إلى حضن أمه شهيدًا وقد وصلها "اعتذاره".

أمّه التي نزفت دمعًا بدت كمن لم يستوعب بعد صدمة الفقد، فبدأت تسأل النساء اللاتي تحلّقن حولها يواسينها في أول أيام العزاء :"شو عمللهم الولد.. كل همّه يلعب.

اقرأ/ي أيضًا: فيديو | "طفل البصل".. أيقونة أخرى لـ مسيرات العودة

قبل ليلة، حضر لوالده يحمل قطعة بوظة، ثم جلس يحدّثه رجلًا لرجل: "لمّا أكبر مش راح أدخن يابا، شوف، جرب كول البوظة، لو أعجبتك، بصير أجيبلك منها دايمًا بدل الدخان، إيش رايك؟"، ضحك أبوه كثيرًا، ويقول إنّها شعر حينها أنّ "محمد" يستحق من الحياة مساحةً أكبر بكثير من العيش بين أزقة المخيم.

محمد أيوب ووالده في صورة قبل استشهاده
محمد أيوب ووالده في صورة قبل استشهاده

عندما ودّعه أبوه شهيدًا همس في أذنه يطلب منه "السماح" عن مرةٍ جعله فيها يبكي بعد أن حلق له شعره "بعد أن عاد من عند الحلاق بتسريحةٍ غريبة لا تناسب تقاليد المجتمع"، يبرر لنفسه أمام الباكين حوله والباكيات: "والله كنت بدي اياه يطلع زلمة"، تجيبه واحدة: "والله وسيد الرجال يا إبراهيم".

البيت "على حطة إيد محمد" رتّبه خشية أن يزوره الأقارب "هاربين من الموت" فزاروا فيه الموت نفسه! استشهد "محمد" برصاصة قناص قتلت "عمدًا" أحلام أمّه التي كانت تريد له أن يعود إلى "برير" ليعمّرها.. تمتمت: "حسبنا الله" وسكت حديث الاثنين ثم تكلّم الدمع وحده.

لحظة استشهاده
لحظة استشهاده

اقرأ/ي أيضًا:

صور | الفن رديفًا لمسيرات العودة

صور | "طائرات المولوتوف".. السلاح الأقوى لمسيرات العودة

فيديو | غزة حزينة.. ياسر مرتجى شهيدًا