24-مايو-2018

قبل أيام من انطلاق شرارة مسيرات العودة نهاية شهر آذار/مارس؛ بدأت تُروس محركات الدعاية الإسرائيلية الدوران مستخدمة كافة الأساليب لإثبات عدم سلمية تلك المسيرات، وأن أهدافها ستتجاوز مجرد تظاهر الآلاف على حافة غزة.

وتوافقت قيادات الاحتلال من المستويين السياسي والعسكري في هذه الدعاية، بعضهم مثلاً نشر تغريدات باللغة الغربية لأهالي غزة - لأول مرة - بهدف إحباط نجاح تلك المسيرات أو كبح جماحها على الأقل، وإطلاق المزاعم تارةً والتهويل أخرى، وحتى ادعاء الإخفاق لأهدافٍ غير معلنة.

الخطاب الإسرائيلي المضاد لمسيرات العودة تخلله تهديدات تارة، وتهويل تارة أخرى، وحتى ادعاء الإخفاق

لكن هذا الحراك الشعبي؛ شارك في الدعوة له مستقلون ومثقفون كانوا مصدر البذرة الأولى للفكرة، ما يستدعي استحضار عملية "سبيدي إكسبريس" الأمريكية عام 1969، المشابهة لبعض أحداث مسيرة الفلسطينيين الحاليّة.

اقرأ/ي أيضًا: مسيرات العودة: مشاهد لا تُنسى.. صور وفيديو

فقد كان هينري كيسنجر مسؤولاً عن ملف الحرب في عهد الرئيس الـ36 للولايات المتحدة ليندون جونسون، حين قال الأول إن منطقة دلتا "الميكونغ" الفيتنامية خالية من أي تواجد للمقاتلين الفيتناميين، وأن كافة المعلومات الاستخباراتية توافق ذلك، ما يعني أن استخدام القوة العسكرية هناك لا مبرر له مطلقًا.

ورغم ذلك، فإن كيسنجر وجّه بتطهير تلك المنطقة، وأسفرت الطلعات الجويّة والقصف المتتابع على الحقول الزراعية المفتوحة عن مقتل 10,899 فيتناميًا، وفقًا لمجلة "نيوزويك" الأمريكية. لكن تلك الأرقام والوقائع على الأرض لم تكن مقنعة لإعلاميين أمريكيين سعوا لمعرفة حقيقة ما إذا كان الفيلق التاسع لجيش بلادهم يُخبئ شيئًا أكبر من ذلك.

وسُرعان ما تكشفت "الدعاية" التي كان كيسنجر يقودها. فقد اغتنم الفيلق الأمريكي 748 بندقية فقط من ميدان المعركة. لكن ماذا عن عدد الضحايا الذي فاق الـ 10 آلاف؟ إنهم بالتأكيد من الفلاحين والمدنيين الذين قضوا بالجملة.

مراسل "نيوزويك" التقى بعيد الحرب بقرويين. قال أحد الناجين إن قريته أصابها دمار هائل بسبب قصف المروحيّات الأمريكية، وقد كانت تضم خمسة آلاف شخصًا قبل العام 1969، لكنهم بعد عام من ذلك اختفوا جميعًا.

"كل المنازل البسيطة دُمّرت تمامًا في القصف، وأخرى حُرقت حتى بولاعات السجائر. كان معظم القتلى من الأطفال ذوي الأجساد الصغيرة الذين أخفقوا بحماية أنفسهم حتى لو كانوا متخفين بملاجئ تحت الأرض" قال القرويون لمراسل المجلة.

خلال مسيرات العودة، يبدو جيش الاحتلال محترفًا في استخدام دعاية نظيره الأمريكي في فيتنام

في المقابل، يبدو جيش الاحتلال الإسرائيلي محترفًا في استخدام دعاية نظيره الأمريكي، فيما يتعلق بمسيرات العودة. نسرد هنا بعض أساليب الدعاية التي استخدمتها إسرائيل خلال أسابيع المسيرات:

في الرابع من نيسان/إبريل الماضي، استعان الناطق باسم الجيش أفيخاي أدرعي بآياتٍ قرآنية من سورة الأعراف لإحباط "جمعة الكوشوك"، وهي الجمعة الثانية للمسيرة، وبيان ضرر إحراقها على المستوى البيئي، عدا عن توجيه رسالة مناشدة لرئيس منظمة الصحة العالمية طالبها فيها بالتدخل الفوري لمنع حرق آلاف الإطارات المطاطية على الحدود مع غزة.

شاهد/ي أيضًا: طفل البصل.. أيقونة أخرى لـ مسيرات العودة

كما عمدت إسرائيل إلى التحذير من خطورة المشاركة في مسيرات العودة، والتلويح بنشر مئة قناص إسرائيلي على طول الحدود، بالترافق مع تعزيزات عسكرية ضخمة، وأدوات نوعية لمواجهة أي سيناريو باجتياز آلاف الفلسطينيين للسياج الأمني الفاصل.

كذلك، فإن السفير الإسرائيلي في مجلس الأمن داني دانون، قال في كلمته أمام المجلس بعد يومين من مجزرة أطاحت بـ65 فلسطينيًا في غزة على امتداد الحدود الشرقية، إن "المزاعم الفلسطينية بأن نقل السفارة أثار المظاهرات، كان مجرد عذر آخر للعنف ضد إسرائيل". وأضاف أن المجلس مضطر إلى "استدعاء الأكاذيب، وإدانة عنف حماس ووضع نفسه على الجانب الصحيح من التاريخ".

كما عنونت صحيفة "هآرتس" العبرية في الـ 16 من الشهر الجاري: "إسرائيل تعترف... حماس وجهت إلينا ضربة قاصمة". فالمتحدث بلسان الجيش الإسرائيلي يونتان كونريكوس، اعترف أمام الجالية اليهودية في الولايات المتحدة، أن جيشه لم ينجح بتقليص عدد القتلى والجرحى في صفوف الفلسطينيين. ونقلت الصحيفة عنه أن "عدد القتلى والجرحى سبب لنا حرجًا كبيرًا، الجانب الفلسطيني تفوق علينا في الحرب الإعلامية".

ووفقًا لمراقبين فإن ذلك لا يعني سوى التباكي لإظهار الإخفاق ودفع الآخر إلى التوقف وإعلان النصر.

لذا، فإن الدعاية الإسرائيلية لم تكن ملزمة للإعلام الإسرائيلي بتبني نهج التحريض فحسب؛ فقد عمدت وزارة الخارجية في حكومة الاحتلال إلى التعميم على كافة سفاراتها وممثلياتها للالتزام بنفس النهج وإيصال الرسالة  إلى الرأي العام والمسؤولين في كل مدن التواجد الدبلوماسي الإسرائيلي.

وقال وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي غلعاد إردان، إن "إسرائيل ليست معنية بالتصعيد، ولا تريد موت سكان قطاع غزة. من يريد ذلك هي قيادة التنظيم الإرهابي حماس فقط، فهي التي تستخدم سفك الدماء باستهتار. عدد القتلى لا يعني شيئا، تمامًا كما أن عدد النازيين الذين قتلوا في الحرب العالمية لم يجعل النازية شيئًا يمكن شرحه أو فهمه".

إسرائيل لم تستخدم التحريض فقط تجاه مسيرات العودة، بل انتهجت التباكي وتهويل آثار هذه المسيرات عليها

وأخيرًا، يجب أن تكون حادثة "سبيدي إكسبريس" درسًا للصحافيين، خصوصًا أولئك الذين يتعاملون مع المعلومات والتصريحات والبيانات التي يُقدمها جيش الاحتلال.

إذا كنت كذلك، فقم بإعداد مجموعة من الأسئلة "غير السّارة" إذا كنت في مؤتمرٍ صحفي مماثل أمام متحدثٍ باسم الجيش يومًا ما، وهنا نختار حراك مسيرات العودة كمثال:

كم إصابةً سُجلّت في صفوف الجيش أثناء التظاهرات على حدود غزة؟

إذا كانت الإجابة صفر مثلاً، فذلك يعني أن عناصر الجيش لم تكن في خطر، وأن ما حدث هو مجزرة مجانية.

كم عدد الأسلحة التي اغتنمها الجيش؟ أو على الأقل التي وثقها الطرف الفلسطيني؟

إذا كان الرقم صفر أو أقل من عدد الضحايا؛ فهذا يعني أن تلك العيارات النارية لم تٌشكل خطرًا على عناصر الجيش.

يشعر جيش الاحتلال بنوعٍ من السعادة فيما يتعلق بوجود السلاح في غزة. "لأن غزة تُذكّر الإسرائيليين أن دولتهم مبنية على مقبرةٍ ضخمة وأنه الشبح الذي سيُطاردهم، لذا يتوجب إسكات أولئك الغزيين إلى الأبد وبأي طريقة".

فعندما يزعم جيش الاحتلال أنه يواجه "تهديدًا" من غزة، لا يعني أن ذلك التهديد بسيط؛ "فبعض البنادق المرتجلة أو قنابل بدائية الصنع ستتحول إلى أمرٍ عظيم عبر العويل والتهويل"، كما تربص ضمير ليدي ماكبيث المعذّب في مسرحية "شكسبير" وقال: "يجب على ليدي ماكبث أن تغسل يديها كي تُطهر نفسها من الآثام".


اقرأ/ي أيضًا:

خاص بـ الترا فلسطين.. إجماع وطني على استمرار مسيرات العودة

صور | الفن رديفًا لـ مسيرات العودة

فيديو | ساقي الثوار..