01-يوليو-2017

نابلس 2002، صورة أرشيفيّة: ODD ANDERSEN/ /Getty Images

كُنت فتىً في الرابعة عشر من عمري، أتذكّره مرتديًا قميصًا أزرقًا مُقلّمًا، وبنطال قماش أسود. كان واحدًا ممّن علّموني حفظ "القرآن الكريم" بـمسجد عاشور في "رأس العين" بمدينة نابلس. خبرته عن قُرب ثلاثة أيّام أسبوعيًا. أتذكّر ابتسامته، وكلامه الهادئ الموزون، وصوته الخافت.. في الثلاثين من حزيران/ يونيو هذا العام، يكون قد مضى 15 عامًا، على استشهاد مُهنّد الطاهر، أو "آلة الموت" كما أطلق عليه ضُبّاط جهاز "الشاباك" الإسرائيلي.

نجا من 3 محاولات اغتيال قبل استشهاده، يتهمه الاحتلال بالإشراف على عشرات العمليّات التي أوقعت 120 إسرائيليًا

كان جادًّا أغلب الوقت، لا يُكثر المُزاح، ويحرص على تعليمنا معاني الرجولة، روحانيّاته عالية، نحيل الجسد كان، قويّ البُنية، أتذكره أيضًا يلعبُ معنا مُشمّرًا عن ساقيه حافي القدمين، في مدرسة "عمرو بن العاص". ألِف حياة المُطاردة، من جبل لجبل، ومن كهف لآخر، كان صلبًا، خشنًا كصخور البلاد.

في العام 1997، أتذكّر اعتقاله من قبل أفراد الأجهزة الأمنيّة الفلسطينية الذين اقتحموا بملابس مدنيّة، قاعة المسجد السُفليّة. سار معهم بكلّ هدوء. ظلّ في سجن الجنيد الفلسطينيّ إلى أن اندلعت انتفاضة الأقصى عام 2000.

لطالما كان يأتي برفقة مُهنّد معارف وغرباء. أحد هؤلاء المعارف كان الأسير عمار الزبن، هذا الأخير لم يكن محل ترحاب، كُنّا ننظر إليه نظرة سلبية، ونرفض السلام عليه، كان أحد عناصر الأجهزة الأمنية، ويأتي مرتديًا بدلة عسكرية زرقاء اللون، وبالطبع كان يُدرك مشاعرنا تجاهه ويكتفي بابتسامة!

لاحقًا عرفنا أنّه كان يفعل ذلك في محاولة للتمويه على نشاطه في المقاومة، من خلال انخراطه في كتائب القسام، أمّا الغريب الذي لم يعرفه منّا أحد، فقد علمنا لاحقًا أنّه الشهيد محمود أبو هنود، الذي كان يأتي أحيانًا برفقة الزبن، مرتديًا هو الآخر ملابس أفراد الأجهزة الأمنيّة.

الشهيد مهنّد الطاهر

بدأ مُهنّد الطاهر مشواره في المقاومة عام 1995، واحترف صناعة "قوالب الموت" وتجهيز حشوتها الداخليّة بالمتفجرات، حتى استحقّ لقب "المهندس الرابع". لا زلت أتذكّر صيحاته وبكائه بعد اغتيال الاحتلال للشهيد إبراهيم بني عودة بداية انتفاضة الأقصى، فقد كان من أوائل الواصلين لمكان سيارته المتفجرة، وجثته مشطورة الرأس، كان يصرخ ويتوعد بالثأر..

بعدها، انسلّ الطاهر مهنّد من بين الجموع، وصعد من الدرج القريب من مكتبة البلدية واختفى بين المنازل، واختار لقب المطارد. كان ذلك آخر مشهد أراه فيه حيًّا، قبل اغتياله نهاية حزيران 2002، يومها لم يكتف الاحتلال بتصفيته ورفيقه عماد دروزة بعد محاصرة وهدم منزل "المصري" في منطقة المساكن شرق نابلس، بل سحب جثته وسكب عليها البنزين وأشعل النار فيها، حقدًا، وانتقامًا من رجل أوجعهم.

دنت الأُم من جثمان ابنها في ثلّاجات مشفى رفيديا، وضعت رأسها قرب رأسه وبدأت تُحدّثه وتدعو له. كان مشهدًا حزينًا أدمع الحاضرين (شاهد الفيديو) بكت عليه بصمت كما وعدته في حياته، ثم انطلق موكب التشيع متحديًا دبابات الاحتلال،  ودفن في المقبرة الشرقية إلى جوار الشهيد جمال منصور.

جثمان مهند، بعد استشهاده (يمين)، إلى جانب رفيقه عماد دروزة (يسار)، قبل تشييعهما (نابلس/ 2002)

قبل اغتياله بشهرين، نجا مهنّد من محاولة اغتيال إسرائيليّة، حين حوصر برفقة عدد من مقاتلي القسام في جبال قرية عصيرة، انسحب المقاتلون حينها، إلّا واحدًا أصرّ على تغطية ظهورهم أثناء الانسحاب. وقبلها أيضًا، نجا مهنّد من اغتيال مُحتّم حين كان متواجدًا في منزل الشهيد يوسف السركي، برفقة آخرين، لحظة قصف المنزل، واستشهاد السركجي. أمّا محاولة اغتياله الثالثة، فكانت في شارع غرناطة وسط نابلس، حيث تمكّن من الانسحاب برفقة الشهيد علي علان، يوم أن حوصروا في مشغل الحلبوني للخياطة، وقتها بقي الشهيد الحضيري في المكان، إلى أن استشهد، بعد أن قتل وجرح عددًا من جنود وحدة النخبة في جيش الاحتلال.

يوم اغتياله، سارع "الشاباك" لإعلان تصفية "المطلوب رقم 1" في حينه بالضفة الغربيّة، المهندس الرابع في كتائب القسام المتهم بالإشراف على عشرات العمليات التي أوقعت أكثر من 120 قتيلًا إسرائيليًا. كانت عملية جيلو التي نفذها رفيقه في كلية الشريعة بجامعة النجاح، الشهيد محمد هزاع الغول، واضطر شارون إلى المجيء إلى مكان العمليّة، ومشاهدة بقايا الحافلة النتطايرة.. كانت هذه العمليّة آخر بصماته.


اقرأ/ي أيضًا:

هكذا أتذكر الأستاذ نزيه

فارسُ المرمى يحرسُ الجنّة!

خطف الرصاص والدته وشقيقه وأشياء أخرى!