10-سبتمبر-2018

في زوايا سوق الزاوية الشعبي في غزة، لن تجد بائعًا يتلقّفُك بابتساماته أكثر من سيّداته الأربع الشهيرات اللاتي بدأن أعمالهن البسيطة في هذ المكان قبل أكثر من أعمار بعضٍ من قرّاء هذا التقرير.

فلهؤلاء النسوة اللاتي قضت بعضهن أكثر من ثُلث قرن، منتجات استثنائية؛ إما من إنتاج أيديهن كالجبن المحلي الصنع أو خضروات زرعنها وقطفنها بأيديهن، دون أن تستخدمن الكيماويات والأسمدة أو أي إضافاتٍ غير مرغوبة لمُحبي الطبيعة.

  تلك المنتجات لم تكن لتصل إلى أعين الزبائن اليوميين إلا بعد أن قطعت أشواطًا ملآى بالقسوة   

فالبيض البلدي- وإن غلا ثمنه عن مثيله المنتج في مزارع الدواجن- والفقّوس المقرمش والبامية بحجم عقلة الإصبع وأوراق العنب الغضّة المصفوفة وجذور البقلة والليمون البعْليّ والحبوب الغذائية وأقراص الجميد الغنميّ، لا تجدها إلا بحوزة تلك النسوة البشوشات.

تلك المنتجات لم تكن لتصل إلى أعين الزبائن اليوميين إلا بعد أن قطعت أشواطًا ملآى بالقسوة التي لا يتحملها حتى شُبّان السوق لوقتٍ طويل، الذين عافوا تلك الحرفة لقلة مردودها أو بحثهم عن مهنٍ تُجاري الحداثة.

أم محمد (60 عامًا) التي تعيل ثمانية من أبنائها، وبعضهم يدرس في الجامعة، كانت أول من قابلهن "الترا فلسطين".

[[{"fid":"74012","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":330,"width":580,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]

فمع حلول الليل تعكف أم محمد الفخورة بحصولها على شهادة الثانوية العامة في العام 1967، على حلب عنزاتها الخمس تمهيدًا لصنع كيلوغرامات قليلة من الجبن الأبيض الغارق بمائه، وتعبئها في وعاء بلاستيكي وتنتظر أول أشعة الشمس لتحجز مكانها المعتاد في السوق بحلول السادسة والنصف. "إذا ما تأخرت فهذا يعني أنني لن أحضر وأن أرضيتي ستتحول إلى ساحة عرض لصاحب المتجر المجاور، ساعتها سيبدأ عراك شفهي لإقناعه بإزالة بضاعته مجددًا".

وتقول أم الثمانية إنها سعيدةُ بزبائنها اليوميين، الذين يُكسّبونها نحو 100 شيقل مع حلول الخامسة عصرًا. "كنت أكسب أربعة أضعاف ذلك فيما مضى، لكن يبدو أن بعض الناس لا يبحثون عن الجودة ويكتفون بشراء أي جبن".

ورغم مشاق يومها الطويل، إلا أنها ترفض الجلوس في البيت، عاملةً بالمثل المحلي القائل: (يا ابني) "كل حُرّة وإلها صُرّة". أي أن لكل امرأة حرة يجب أن يكون لها مالها الخاص ولا تنتظره من زوجِ بخيل أو ولدٍ لا يكْترِث.

شرقًا إلى سوق الشجاعية الذي يستحيل السير فيه بالسيارة، يعرف الباعة والمتسوقون "بُقعة" وفاء أبو القُمبُز، الواقعة أمام بوابة مسجد القُزّمري الأثري الذي بناه المماليك قبل 658 سنة.

وفاء (53 عامًا)، ورغم أنها تُجيد توزيع الابتسامات لزبائنها المعجبين بأوراق الملوخية خاصتها؛ إلا أنها سرعان ما تقطب جبينها غضبًا إذا ما حاول جارها البائع منعها من استخدام ميزانه ذو الكفتين الصدئتين.

[[{"fid":"74013","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"2":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":326,"width":580,"class":"media-element file-default","data-delta":"2"}}]]

تقول وفاء التي بدأت باحتراف البيع في الأسواق الشعبية حينما كانت بعمر (15 عامًا) مع والدتها التي أخبرتها أن: "العمل كُتب على الفتاة قبل إخوتها الفتيان لتضمن قوتها وكرامتها إذا جار الزمان عليها".

أم حسن، (66 عامًا) هي الأخرى بدأت مسيرتها في السوقين القديمين ببيع الخضروات الورقية في "مملكتها" الصغيرة الواقعة على مدخل سوق الذهب المجاور. وتشير بكفّيْها المخدوشتين بعشرات من الندوب القديمة. سألتها عما قد تكون تلك. فأجابت: "هذه يدين امرأة تزرع وتقتلع وتحصد وتحرث وتنقل صناديق وتعارك سائقين وباعة وزبائن عنيدين".

سألتُ أم حسن إذا كانت تستعمل أو تعرف كريمات تنعيم البشرة. فضحكت طويلًا حتى بان ثغرها الخالي من الأسنان وقالت: "أي كريمات يا ولدي؟ شايفني بنّوتة؟.. أنا هنا ما بدي أعرف كريمات ولا سياسة ولا شيء إلا فاكهتي وتجارتي".

[[{"fid":"74014","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"3":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":294,"width":580,"class":"media-element file-default","data-delta":"3"}}]]

لكن السنوات الـ 37 الطويلة التي قضتها في السوق، يبدو أنها غيّرت من طباعها. "أصبحتُ أكثر قسوة وأقلُ ضحكًا وأقل كلامًا بسبب ظروف الزمان". تقول أم حسن التي كانت تُساوم زبونًا عنيدًا حول كيلوغرامين من المانجو المحليّة. "على أية حال فالبيع هنا قد يٌنسيني عُمري الذي ضاع ببلاش".

في سوق النصيرات وسط القطاع، وجدنا "أيقونة" تاريخية من تلك النسوة البائعات. إنها أم سليمان التي حجزت مكانها في آخر رواقٍ في السوق الفوضوي منذ 25 سنة والتي تتوسط صناديق سوداء مليئة بالخضروات الموسمية.

[[{"fid":"74015","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"4":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":380,"width":575,"class":"media-element file-default","data-delta":"4"}}]]

"لا أعرف عيد عمّال ولا عيد ميلاد ولا عيد كبير ولا صغير.. عيدي هو رؤية أطفالي فرحين بغلّتي مع آخر النهار، السّتْ –المرأة- في غزة لازم تكون قوية وتأمر وتنهى، فالرجال والزمان غدّاريْن". ذلك رأي أم سليمان (62 عامًا)، التي تركها زوجها مع أبنائها قبل 7 سنوات.

وكان الجهاز المركزي للإحصاء سجّل العام الماضي نحو 10% من الأسر في قطاع غزة التي تُعيلها نساء، في مجتمع يُشكلن أكثر من 940 ألفًا من عدد سكانه الذي تجاوز المليونين نسمة.

ورغم التقدم الحاصل في معرفة القراءة والكتابة لدى الإناث خلال العقد الماضي، إلا أن الفجوة ما زالت قائمة لصالح الذكور بفارق 3%، مُسجلًا نسبة 98.6% للذكور خلال ذات العام.


اقرأ/ي أيضًا:

صور | كريمة قاهرة العسكر والمعسكر

كريمة.. المصوّرة الفلسطينية الأولى

صور | شوقية.. مرأة في وجه الاحتلال

زليخة الخليل التي سجنت نفسها!