21-سبتمبر-2019

الثامن من تشرين أول/أكتوبر من العام 2000، تاريخٌ يتذكّره جيّدًا من عمل في قطاع السياحة والسفر في غزة، حين أقلعت عجلات آخر طائرةٍ من مدرج المطار الذي سجّل في عامه الأخير سفر أكثر من 60 ألف مسافر، ومعه طارت أحلام أصحاب تلك الشركات بلا تذكرة عودة.

35 شركة مرخّصة عاصرت الفترة الذهبية لقطاع السياحة في غزة، قبل أن تتحوّل مكاتبها لمجرد نقاط لـ"الدليفري"

وبحلول الشهر المقبل، يُطفئ نحو 800 موظفٍ عملوا في هذا المطار شمعته الـ19، وقد انضمت إليهم نحو 35 شركة مرخّصة عاصرت تلك الفترة الذهبية لقطاع السياحة، قبل أن تتحوّل مكاتبها إلى مجّرد نقاط لـ"الدليفري" فقط.

اقرأ/ي أيضًا: القاهرة - غزة.. طريق الآلام الجديد

نبيل الشرفا، يُدير شركةً للسياحة والسفر تُزاولُ خدماتها منذ منتصف 1952، مُذ كان مشروعهم العائليّ يُنظّم رحلاتٍ سياحيةً جماعيةً في حافلاتٍ إلى شمال فلسطين ومدن الساحل اللبناني، والقاهرة والإسكندرية، ولا ينسى حينما استأجر طائرة رُكّاب كاملة لتسيير وفودٍ سياحية مماثلة من غزة.

"صحيحٌ أن ذلك كان لمرةٍ واحدة فقط؛ إلا أنها كانت تجربةً لا تُنسى وفتحت شهيّة الكثيرين من العاملين في القطاع السياحي إلى تكرار التجربة (استئجار طائرة)"، يقول الشُرفا الذي باع نحو 7 آلاف تذكرة طيران طوال فترة عمل المطار. لكن أحلامه وأحلام منافسيه سُرعان ما تحوّلت إلى سراب مع أول قذيفة إسرائيلية اخترقت مبنى المطار ومدرجه بعد 10 أيام على اندلاع انتفاضة الأقصى. 

واليوم، تغير الحال بشكلٍ لا يُمكن مقارنته بتلك الحقبة الماسِيّة، فعلى بعد كيلومترين فقط من المطار، تُوأدُ ما بقي من مخططاتٍ ومشاريع مستقبلية لتلك الشركات أمام بوابة معبر رفح الشهير بإغلاقاته وفوضى أعداد مُجتازيه وطريقة وصولهم ومغادرتهم وما يتعرضون له من مهانة في الجانب المصريّ منه.

فبالرغم من آلاف المُسجّلين الراغبين في السفر عبر ذلك المعبر سيء الصيت؛ إلا أن آلافًا مثلهم قلقون من توقيت استصدار التأشيرات وتذاكر الطيران وجوازات السفر ومعاملاتٍ رسميةٍ أخرى، خشية أن يفوتهم موعد العبور أو الإقلاع جراء تلك الفوضى التي قد تسمح لبعض المسجلين حديثًا بالسفر الفوري، فيما آخرون بقيت أسماؤهم شهورًا ولم يتلقوا مجرد إشعارٍ بقرب سفرهم أصلاً.

وحتى إن تمكّن أولئك من السفر عبر المعبر؛ سرعان ما تُقفل هذه الشركات السياحية أبوابها بمجرد إغلاق بوابة ذلك المعبر، الذي لا يُمكن مقارنة العمل به بنظيره في أريحا من ناحية آلاف المسافرين يوميًا.

يتكرر إغلاق معبر رفح، والمسافر من غزة غالبًا هدفه العلاج أو التعليم، وهذا يضخ مزيدًا من الخسائر في أدراج الشركات

فذلك التردد الذي يعيشه المسافر من غزة الذي غالبًا ما يُسافر لأجل غاياتٍ إنسانية كالتعليم والعلاج، يعني ضخّ مزيدٍ من الخسائر اللانهائية في أدراج تلك الشركات، بحسب سليم دلّول الذي يُدير شركة "بكين تراڤل" وسط المدينة.

اقرأ/ي أيضًا: سماسرة هجرة غير شرعية ينشطون مجددًا

هذه الخسائر حتمًا لا تُشجّع أحدًا على افتتاح شركةٍ للخدمات السياحية بعد أن تحّول بعضها إلى مجرّد نقطة توصيل "دليفري"، لا تتعدى خدماتها إرسال بياناتٍ لاستصدار جواز سفرٍ من رام الله أو استقبال وثائق شخصيّة أو رسمية، أو حتى إرسال حوالة ماليّة ببضع مئات من الدولارات، والاكتفاء بريْعِ رسوم إرسال المعاملة، وفق دلول.

وبحسب العاملين في القطاع السياحي، يُسيطر التُجّار حاليًا على رأس هرم عدد المسافرين بنحو 70%، تليهم فئتا المرضى والعلاج بواقع 28% لكلٍ منهما، بينما 2% فقط هي نسبة الراغبين بتجربة السياحة الدولية خارج قطاع غزة، وغالبًا ما تكون مصر وُجهتهم المفضّلة لقلة تكاليف الإقامة والمعيشة فيها.

لكن إعادة المياه إلى قنوات تلك الصناعة السياحية "ليس أمرًا مستحيلاً"بحسب الشُرفا (56 عامًا) الذي يضع على طاولته مجسماتٍ لطائرات بلاستيكية وأخرى لبرج إيفل وجدارية عملاقة لخريطة العالم خلفه. يُضيف، "يُمكن لشركات السياحة الوقوف على أقدامها مُجددًا وفتح السوق أمام تنظيم الجولات السياحية وما يُرافقها من حجوزاتٍ فندقية وتذاكر طيران وحافلات نقل ومترجمين ووجباتٍ غذائية وبالتالي إحداث انتعاشة اقتصادية، لكن كل ذلك بحاجة إلى شرطيْن متوازيَيْن".

يُبين الشرفا الشرطين، وهما، "ضماناتٌ بسفر وعودة الجروبات السياحية عبر معبر رفح، وعودة أنصاف رواتب موظفي السلطة الفلسطينية المحجوبة منذ 29 شهرًا".

ورغم "سهولة الحل" كما يبدو، إلا أن أصحاب الشركات موقنون باستحالة تطبيقه واقعًا على الأرض، قائلين إن "ما يحدث في غزة يمثّل حالة إفقارٍ حقيقية للمواطن وصولاً لأن يكون مأكله ومشربه نوعًا من الترفيه بدلاً من أن كان السفر يومًا كذلك".

ويُؤمن غالبية من تحدّث إليهم الترا فلسطين أن منح التسهيلات للمغتربين بزيارة غزة قد يكون ضمن الحلول الأكثر سلاسة في تطبيقها لإنعاش عمل المكاتب السياحية، "فزيارات المغتربين تعني المزيد من الدولار لسوق غزة المتعطّش لشاحنات محمّلة بالمال بدلاً من شحنات السياسة الكاذبة التي تُغرق البلاد في دوّامات من اليأس وفقدان الأمل والتفكير في الهجرة" كما يقولون.


اقرأ/ي أيضًا: 

الطريق إلى القدس من غزة

تامر السلطان.. مات على الطريق البحث عن الحياة

على طريق لقمة العيش غدَر البحر بمحمود