01-سبتمبر-2019

"لا أبحث عن ترقيةٍ أو منصب، أبحث عن احترام وتفهم، أبحث عن ابتعاد، فقط ابتعدوا عني ودعوني أبدع وأفكر بشكل مختلف. هل هذا كثير يا الله؟".

كانت هذه آخر كلمات الشاعر الفلسطيني المنتحر، عام 1999، في مذكراته "شاعر في وزارة حكومية"، التي لم تنشر بعد. كان يعمل موظفًا في وزارة حكومية، وكان شاعرًا واعدًا كتب عنه شاعر عراقي شهير مرة، أن "قصائده تشبه توقف باخرة على متنها صيادون و فيلة ونمور في عرض البحر وصدور موسيقى منها".

في كل وزارة حكومية ثمة مبدعون وفنانون ونشطاء ضمير وذهن، يتم إخافتهم وإذلالهم وإقصاؤهم بشكل مركز ومقصود

 "لماذا دائمًا الفنانون والشعراء الذين يشتغلون في مؤسسة حكومية وجوههم حمراء وعيونهم متوترة؟". سأله صديقٌ له عن وجهه الأحمر وتوتر عينيه حين زاره في مكتبه، فكر الشاعر طويلاً، قبل أن يجيب، "والله معك حق، لكني لا أعرف لماذا بالضبط، يمكن لأنهم حساسون زيادة عن اللزوم".

 أو ممكن لأن المكان الذي هم فيه بليد وغير قادر على فهمهم" قال الصديق.

اقرأ/ي أيضًا: عظمة من كتف خليل السكاكيني

الشاعر الذي يعمل إداريًا منذ عشرين عامًا في وظيفةٍ حكومية، يشعر بتوترٍ شديدٍ هذا الصباح، ولأنه جبانٌ وحساسٌ وعاجزٌ عن المواجهة، وغالبًا من برج السرطان، خبأ توتره في درج مكتبه وانغمس مع الزملاء في حديثٍ مفتعلٍ عن موسيقى عمر خيرت.

مالذي يغضب الشعراء في وزارات الحكومة؟

في مذكراته التي عُثِرَ عليها بعد انتحاره، كتب شاعرٌ شهيرٌ من جيل التسعينيات: "بشكلٍ شبه يومي أصل إلى مكتبي في السابعة والنصف صباحًا، يكون مديري واقفًا على الباب بوجهٍ متعجرفٍ ويدٍ متهيأة للتلويح: يا بني آدم، قلت لك ألف مرة، أكتب قصائدك في البيت، هنا أنت إداري وعليك واجب التركيز".

"ماذا حدث أخبرني؟" سألته، "أنت البارحة لم تكن مركزًا حين زار المسؤول الكبير مديريتنا في الوزارة. كنت سارحًا ومشوشًا ولم تجب عن أسئلة المسؤول". ولم أستطع أن أجيبه حين  قال لي: "قل لموظفيك أن يتركوا حياتهم الشخصية بما فيها الأدب والقصائد في البيت".

وكأن الموضوع يشبه المسلَّمة أو اللَّازمة، ثمة برمجةٌ غريبةٌ في المشهد، ثمة ثوابت وقواعد، في كل وزارة حكومية ثمة مبدعون وفنانون ونشطاء ضمير وذهن، يتم إخافتهم وإذلالهم وإقصاؤهم بشكل مركز ومقصود، هل وقعتُ في عقلية المؤامرة؟ هل أنا مريض بالشك؟ أليس ثمة استثناءات هنا وهناك؟ أبدًا والله لا يوجد، لا تتحمل الوظيفة الحكومية مزاج شاعر أو رسام، هناك تنافرٌ عجيبٌ بينهما وكأنهما ولدا هكذا، الكينونتان بالفعل متضاربتان، الشاعر كتلةٌ من المشاعر والأحلام، والوظيفة الحكومية جبلٌ من الحسابات والمصالح. الشاعر لا يضمر للعالم سوى السلام، وهي لا تخبىء للعالم سوى القشور والدعاية والكذب والقتل الداخلي.

لا تتحمل الوظيفة الحكومية مزاج شاعر أو رسام، هناك تنافرٌ عجيبٌ بينهما وكأنهما ولدا هكذا

كنت أمشي بين مكاتب الزملاء ضجرًا من فراغٍ قاتل، مسؤولٌ عنه مديري الذي يرفض كل خططي للتغيير الثقافي. عجيبٌ مديري هذا، كيف جاء إلى هذا المنصب؟ عمل دهّانا في أول شبابه ولم يكمل "التوجيهي"، وحين سُجِنَ سنة واحدة أكمل "التوجيهي" في السجن، وخرج شخصا مهمًا. سألت صديقًا لي: كيف صار رجلاً مهمًا؟ فاستغرب سؤالي، كيف ما زلت ساذجًا وتسأل هكذا سؤال؟ "خلف هذا الرجل، رجلٌ فتحاويٌ كبيرٌ، أو رجل أمن، أو شخصٌ مهمٌ عشائريًا أو تجاريًا، وأنت خلفك الأحلام وأمامك الشعر، والأحلام والشعر لا يؤخران ولا يقدمان في الحياة الواقعية".

في آخر أيامي كنت أهم بالخروج من الدائرة، ناداني مديري (دهّان المستوطنات السابق) وطلب مني أن أجلس، كان مبتسمًا ولطيفًا، "أريد منك خدمة وأنا متأكدٌ أنك ستنفذها لي، أريد أن تكتب لي  خطابًا أُلقيه في يوم الاستقلال أمام رئيس الوزراء".

ولأني جبانٌ وأتفنن في تأجيل المواجهة، وأعجز عن الغضب الواضح المباشر، هززت رأسي موافقًا، نزلت عن الدرج محطمًا أكاد أقع  على الأرض.

 تسللت ليلاً إلى كراج البيت، دخلت سيارة أخي طبيب الاسنان، أدرت محركها، ورحت تمامًا مثلما فعلت معبودتي الشاعرة الأمريكية آن سكستون، أشم غاز أول أكسيد الكربون السام، وأذهب إلى مكانٍ بعيدٍ جدًا جدًا جدًا.


اقرأ/ي أيضًا: 

لوحات من مدن النار والقش

هل نحن شعب طليعي؟

ماذا لو اختفت الكاميرات من العالم؟

دلالات: