23-ديسمبر-2018

لا أريد أن يحزن أحدٌ من هذه الكلمات، وأحب أن يكون التأبين هنا ورقة عابرة لزيادة التوثيق، توثيق أرواح الشهداء وسِيَرِهِمُ فوق العادية التي يسجلونها قبل أن يرحلوا.

عندما استشهد صالح البرغوثي في رام الله، ورأيت صورة ابنه قيس على وسائل التواصل الاجتماعي، تحركت يدي بعد فيديو قيس إلى فيديوهاتٍ عن صالح، شهيد آخر، وأبناء صالح آخرين. عدت بذاكرتي إلى صالح محمود التلاحمة، الذي يتسع صدري وقلبي في ذكراه، وأعجز عن إيفائه حقه في إبقاء اسمه حيًا بين الأجيال الجديدة.

وبين صالح الأول الذي استشهد عام 2003، وصالح الثاني الذي استشهد عام 2018، صورٌ ترفض المغادرة، وتصر على الحضور والثبات والتلويح من خلف الشبابيك ورؤوس الجبال البعيدة.

بين صالح الأول، وصالح الثاني، صورٌ ترفض المغادرة، وتصر على الحضور والثبات والتلويح من خلف الشبابيك

كان صالح الأول من أجمل أبناء قريتي "البرج" في جنوب الخليل. ونحن قرية فلاحين بين بئر السبع البداوة والخليل المدينة، لا مكان هناك للرومانسية، وكل شيء قاسٍ في المولد والنشأة والموت. وأكتب عن صالح الأول هنا لأنه ضرب كل هذه المعادلة الجبارة، فهو آخر عنقودٍ على خمس أخوات، ووحيدُ مؤذن القرية الطيب، وواحدٌ من العشرة الأوائل على "التوجيهي" في كل فلسطين، والعضو الصغير في جماعة الإخوان المسلمين الذي يسمع أم كلثوم ويحب الموسيقى، وأطيب أبناء الصفوف العليا في المدرسة، لا يضرب ولا يعنف، بل يلاعبنا مثل أبنائه.

في الانتفاضة الأولى، كان مستوى الحريات صفرًا. حركة فتح منعت الأراجيل في المقاهي أحيانًا، والإخوان المسلمين كانوا يعتبرون أم كلثوم كفرًا، لكن صالح لم يكن كذلك، يسمح للجيل الأصغر بكل شيء: موسيقى وكتبٌ فكريةٌ علمانيةٌ، وقراءاتٌ فيها تحدٍ للأديان. كان نسيجًا إنسانيًا عاليًا وشفافًا لا يجاريه أحدٌ في الجيل.

كبرت، أنا الذي ولدت بعد صالح الأول بسبع سنوات، وسمّاني والدي على اسمه. كبرت في موسكو، واقتنعت بالعلمانية، وصعدت فيها إلى حد التناحر مع الأديان، ولكن عندما تحضر سيرة صالح التلاحمة، أتراجع وأرى العالم بمنظور آخر.

واضحٌ أن لـ"مطربان" الحليب الذي كانت تحمله أخت صالح عندما كان تأتي به إلى منزلنا ليأخذوا الحليب من أهلي، أثرٌ كبيرٌ في رأب الصدع بين العلمانية والدين. واضحٌ أن سعيي لمجاراة صالح الأول في علامات التوجيهي دخل أيضًا في جسر الهوة بين مناصرة الشيوعية والديمقراطية الدينية، لا شيء يبعد ذاكرتي عن هذا الإنسان الجميل.

في الأول من كانون الأول 2003، عندما حاولت أن أشق طريقي بين شبان يكبّرون ويهتفون أمام ثلاجة مستشفى رام الله الحكومي لأعرف إن كان "ابن بلدي" هناك، لم أضعف ولم أهُن، ولم تغلبني مشاعر الكتاب والأدباء، بل تحديتُ كل الأولاد الذين وقفوا يهتفون هناك، إلى أن وجدت الابتسامة ذاتها والوجه الأبيض ذاته والجبين الطيب والطلة الحنونة على الأطفال، ذاتها.

لا يد ستمتد إلى كتفي بعد يد صالح الأول، لتوقفني في شارع ركب وسط مئات المارة، وما إن أستدير حتى أجده، وهو مطاردٌ منذ سنوات، يسلم عليّ بحرارة، مليئًا بالحياة في ملابس ليست له: "بنطلون جينز وجاكيت عمال أزرق وكوفية مرقطة وعقال رجال كبار ولحية خفيفة"، ونتسابق في الكلام: "أين أنت؟ شو الأخبار؟ طيب بدك إشي؟ طيب ليش ما بتيجي؟..". وفجأة، يسكتني ويتلو علي رقم هاتفي ويقول لي إنه يحفظه غيبًا وسيتصل بي أكثر من الآخرين إذا احتاج، ولكنه يحب أن يراني، ولا يحبذ التواصل معي حتى لا يؤذيني من الاحتلال.

دون أن ندري، ثمة طاقة "إكس" في شعبي تخرج من العدم وتقاتل وتقتل وتنتج حياة

صالح الثاني- البرغوثي، فيه من صالح الأول- التلاحمة، مشاهد ومعلوماتٌ وتسجيلاتٌ وسماتٌ كثيرة تشير إلى أن صالح البرغوثي شهيدٌ من نوع آخر. هكذا اتفقت مع الدكتورة وداد البرغوثي على أن تسريحة شعر هذا الشهيد لها قصةٌ كبيرة، ابتسامته ووقفته في الأرض مع طفله، وَداعة روحه وطيبتها تحفر في ذاكرتنا بصمة بصمة.

ومن رأى صورة الطفل قيس، ابن صالح البرغوثي، حتمًا سيصل إلى تلك المنطقة الساحرة في حياة أبناءالشهداء. إنهم يحبون الحياة وينجحون ويحصدون أعلى العلامات في "التوجيهي" وفي الجامعة، ومثلما فعل أبناء صالح التلاحمة: مصعب وسكينة وكتائب وإسراء ومحمد، حتمًا سيفعل قيس ابن صالح البرغوثي.

موت أجمل الأبناء ليس قدرًا محتملاً، بل إنه يكسر القلب، لكن دون أن ندري، ثمة طاقة "إكس" في شعبي تخرج من العدم وتقاتل وتقتل وتنتج حياة، ثمة قرى بعيدة ومخيمات متعبة ومنازل قديمة وعائلات شريفة ومستورة تلد أجنة وأطفالا من "فم الأسد"، يولدون ويكبرون ويعودون بعد حياة ليست كأي حياة، إلى كنف السماء.


اقرأ/ي أيضًا:

أين أخطأنا في قضية ضالح البرغوثي؟

ما وراء الضحكة

هكذا جهز الطفل شادي شارع الفاخورة لعرسه