16-أغسطس-2018

راعي أغنام في قرية سالم شرق نابلس - تصوير جعفر اشتيه (gettyimages)

كان يُقلقني تساؤلٌ في نهاية كل نقاش من هذا السياق، أنه لو امتلأت مساحات الكرة الأرضية، أين يسكن البشر سوى في الهواء مُعَلّقين؟ ظل التساؤل يتضخم معي إلى أن ارتطم بحافة أول بناية سكنية في الضفة الغربية المحتلة، لأبدأ أول خطوة في مشوار اكتشافي لجواب "كيف لِبَشرٍ أن يُعَلّقوا في الهواء"، وتنفجر بذلك دزينة الأسئلة اللا متناهية: هل اكتظت الضفة بأهلها؟ أم أنها قشور المدنية والحداثة ؟ أم أن الشُقق السكنية باتت أكثر إغراءً؟

في الواقع.. ولا واحدة من تلك، فأراضي الضفة التي تبلغ مساحتها 5860 كم بنسبة 21% من أصل فلسطين التاريخية وفق اتفاقية أوسلو، لم يتبقَ منها سوى 15% كحد أقصى من المساحة الإجمالية وفقًا للإحصاء الفلسطيني عام 2018، من خلال احتلال "إسرائيل" لمزيد من المواقع في الضفة، ببناء وتوسيع البؤر الاستيطانية والحواجز العسكرية، والتضييق على الفلاحين بالإخطار والهدم وابتزاز أصحاب الأراضي بالمال، والتحايل في عملية الشراء من خلال أسماء عربية وهمية.

 بالرغم من ذلك، لم يكن عامل تدشين "البؤر" وتوسيعها وحده الذي دفع أهل المنطقة في الضفة لأن يقرروا بأن يكونوا مُعلّقين في الهواء بعد تقطيع أوصال المدن والشوارع من قبل الاحتلال، فتآكل المساحات أدى إلى الندرة النسبية للأراضي مقارنةً بسنوات ما قبل تفشي سرطان الاحتلال على شكل مستوطنات في الضفة، وبالتالي ارتفاع سعر الأراضي واحتكار مقدرة الشراء على أصحاب رؤوس الأموال، الذين شرعوا في الشراء بالجملة بسعر منخفض، وبيعها بالقطعة ليُضاعَف بذلك الربح.

أراضي في الضفة بعد أيام فقط من بيعها يرتفع سعر الدونم فيها آلاف الدنانير فورًا

ومع مرور الزمن تزداد كرة الثلج حجمًا في تدحرجها المستمر، فيتضخم العجز معها. فمثلاً تخيلوا معي في شهر حزيران من هذا العام، قام كاتب المقال بجولة تقصي لأسعار الأراضي، فكان سعر واحدة من تلك التي تقع ببلدة العبيدية في محافظة بيت لحم (36 ألف دينار أردني)، تبلغ مساحتها دونم، وبعد أسبوع واحدٍ فقط بيعت لمواطن آخر بسعر (45 ألف دينار)، والذي يشتريها بهذا السعر يبيعها للذي يليه بمبلغ أعلى كي يربح، وهكذا دواليك.

وهناك أمثلة على عمليات شراء أراضي بيعت بضعف المبلغ من ثاني يوم، ولكن من باب حصر إطار المقال نكتفي بالمثال الذي سلف.

ويستمر لجوء الشبان المقبلين على الزواج والاستقلال لاستئجار الشقق السكنية باهظة الإيجار، أو الارتهان إلى البنوك بشراء شُقة محدودة الجو والمساحة، ليكتظ الناس في بؤرٍ محصورة بشكل عمودي بدلاً من الامتداد بشكل أفقي ببيوت وأراضٍ مستقلة  كما هو المفترض، وبما أن التوسع الأفقي يعني السيادة، فبغياب الأُفق تنعدم الثانية.

وما يزيد الأمور تشابكًا هروب أهل القدس المحتلة من ضغوط الاحتلال في الضرائب والبناء، إلى مناطق الضفة الغربية للبناء والشراء، فيستغل أصحاب الأراضي ذلك برفع الأسعار في المنطقة كاملة - نظرًا لما قد يدفعه أهل القدس من مبلغٍ أعلى نسبيًا- فيعجز عن مجاراتهم في الشراء من هم دون القدس من أهالي المنطقة.

ويصبح واضع القانون في هذه الحالة أصحاب رأس المال، والمنتفعون، والمغفلون سواء، تمامًا كما يتفق مع نهج الرأسمالية وأيدلوجيتها في قضية التملك والتفرد على حساب الجموع، وتعطيل مبدأين عالجا مثل هذه القضية من ذي قبل، عندما قال الرسول العربي محمد ﷺ: "من أحيا أرضًا ميتة فهي له وليس لعرق ظالم حق"، وهو ما يتفق معه المبدأ الماركسي بقوله: "الأرض لمن فلحها" لا لمن يمتلكها.

أراضي بمساحات واسعة في الضفة في أيدي ملاك في الضفة، تبقى غير معمورة إلى أن يأتي صاحب النصيب الذي يشتري وفق قانون الرأسماليين العرب

بذلك تكون أراضٍ بمساحات واسعة بأيدي مُلّاكٍ في الضفة، تبقى غير معمورة أو مفلوحة إلى أن يأتي صاحب النصيب الذي يشتري وفق قانون "الرأسماليين العرب"، وتترك الأرض في مهب أطماع "العملاء السماسرة" أو عربدة المستوطنات ومزيد من السيطرة، سواء كانت الأراضي تصنيف "A" أو "B" أو"C".

ومع أن كل ما ذُكر كخطر وجودي تعدى مرحلة كونه مؤشرًا، فإن العامل القانوني الذي تعمل به الحكومة التابعة للسلطة الفلسطينية لا يحوي في تطبيقاته على ما يضبط عملية انتقال الأراضي بسعر مُثبّت، سواء في حال اعتبرنا أنه يندرج في سياق العقارات أو التجارة الشخصية الحرة، أو في حال نظرنا إلى مدى اهتمام الحكومة بحيّز الزراعة الذي لا يلقى اهتمامًا بأكثر من 1% من  الميزانية الكلّية، رغم أن هذا القطاع يمثل 5% من الإنتاج المحلي الفلسطيني.

وهنا نجد أنفسنا طريحين أمام السؤال التالي: بما أن النهج الذي يقوم بشكل أساسي في منطقة الضفة بقيادة السلطة الوطنية على المقاومة الشعبية بشكل أساسي، فلماذا يُواجَه الاستيطان بإهمال الزراعة والمزارعين المحليين؟! وغيرها.

وعلى سيرة الأرض أختم، لقد كان من أبرز عوامل قيام ثورة 1936، ارتفاع الضرائب على ملكية الأراضي من 9% إلى 15%، أما الفلاح فقد كان يدفع 25% من صافي دخله ضرائب في السنوات العجاف، وهي سياسة عمدت عليها بريطانيا من أجل تشكيل عبء على الفلاح والمواطنين ملاك الأرض، فيسهل على المنظمات الصهيونية أمر الشراء والاستحواذ.


اقرأ/ي أيضًا:

وادي القف: مكرهة صحية بدلاً من منتزه قومي

مجاري المستوطنات تهلك الحرث والنسل

من المستوطنات إلى قلقيلية.. بريد نفايات