04-يوليو-2019

بلهفةٍ وترقب جلست والدة الشّهيد محمد عبيد أمام طاولةٍ مفروشةٍ بالورود، متنتظرة وصول موكب تشييع جثمان ابنها لتقبله وتحتضنه وتودعه لمثواه الأخير.

"دقائق صعبة" -كما وصفتها والدة الشهيد- مرّت عليها وهي تنتظر وصول الجثمان، فاحتضنت ملابسه الغارقة بدمائه وهي تقبّلها وتشتمُّ رائحتها علّها تروي شوقها بعد مرور أربعة أيامٍ على غياب ابنها الذي اختطفت قوات الاحتلال الإسرائيلي جثمانه. قطع صمتَ الانتظار ضجيجُ وصول والد الشهيد الذي اقترب من زوجته وهمس بأذنها "شفت حبيبك وغسلته وحضنته وقلي سلم على إمي هيني جاي أبوسها وأودعها، محمد حكا معي وهيك قلي والله حكا معي".

"حبيب إمك" لقبٌ أُطلق على شهيد العيساوية محمد عبيد من عائلته وأصدقائه لتعلقه الشديد بأمه

ثواني مرت ليأتي الموكب، فاستقبلته أمه بالورد والزغاريد وهي تصرخ "زفيتك أحلى زفة يما، هادا أحلى عرس بكل فلسطين، أنا قدمتك هدية فدا الأقصى وفدا القدس وفلسطين يا حبيب إمك".

"حبيب إمك"، هو لقب أطلق على الشهيد محمد من عائلته وأصدقائه لتعلقه الشديد بأمه، "إذ اعتاد الجلوس في حضنها والنوم على صدرها كطفلٍ صغير يبحث عن الأمن والأمان والحبّ، الذي غُيّب عنه في سجون الاحتلال الاسرائيلي" كما يقول والده.

اقرأ/ي أيضًا: أحمد جرار.. "هبّت روايح الجنة"

تقول فدوى عبيد والدة الشهيد محمد، "محمد روحه برقبتي وروحي برقبته، هو انحرم مني 5 سنين وانحرمت منه، أخذوه مني طفل 15 سنة ورجعولي اياه شب 20 سنة. محمد كبر بالسجن، عشان هيك متعلق في، كان يتصرف معي بالطفولة الي ضاعت منه بالسجن".

أمام منزل الشهيد، خُطّت عبارة "تهنئة إلى الأسير المحرر محمد سمير عبيد"، وعلى الجدار الآخر كُتِب "هنا انقتل البطل محمد سمير".

وكانت سلطات الاحتلال اعتقلت عبيد قبل 6 سنوات بتهمة إلقاء حجارة، ثم أفرجت عنه بعد سنتين، لكن وبعد مرور 6 أشهر أُعيد اعتقاله والحكم عليه بالسجن سنة ونصف، انتهت قبل سنة من ارتقائه شهيدًا.

في خيمة العزاء ببلدة العيساوية في القدس، جلس سمير عبيد "والد الشهيد" شاحب الوجه ومثقل القوى ودموعه بلَّلت وجهه وهو يستقبل المُعزّين بابنه.

أفاد سمير بأن محمد تعرض للضرب والتنكيل وتعصيب العيون خلال اعتقاله في المرتين، ولم يُسمح له بارتداء ملابسه خلال اعتقاله في المرة الثانية، إضافة لتعذيبه خلال التحقيق السري معه، تحديدًا في الاعتقال الأول رغم أنه كان قاصرًا، حيث قضى داخل الزنازين 20 يومًا لا يرى الشمس والضوء ولا يعرف الأيام، وتعرض للإهانات والشتائم.

وأضاف، "محمد حكا كانوا يرموله الأكل زي الحيوانات، وما كانوا يسمحوله ينام".

تعرض محمد عبيد لتحقيق سريٍ خلال اعتقاله، وللعزل دون أن يرى الضوء ولا يعرف الزمن، رغم أنه كان قاصر

وبسبب اعتقاله وهو ابن (15 ربيعًا)، حُرِمَ محمد من إكمال تعليمه رغم تفوقه في الدراسة، لكنه ظلّ يحلم بالحصول على شهادة "التوجيهي"، وألحّ عدة مرات لتقديم الامتحان داخل السجون لكنه لم ينجح في التسجيل، ليقرر الخطوَ نحو مستقبله بعد الإفراج عنه، لكنّ رصاصات الاحتلال خطفت حلمه مرةً أخرى.

اقرأ/ي أيضًا: صالح الأول.. وصالح الثاني

يصف سمير ابنه بأنه كان "بشوشًا يحب الحياة والحرية، وسنده في الدّنيا ويده اليمين"، رغم غيابه عنهم لسنواتٍ بسبب الاعتقال، مبينًا أنه حاول التمتع بحياته بعد الإفراج عنه، فسجّل في نادٍ رياضيٍ لتعويض سنواته التي ضاعت والبدء بحياة جديدة كان الاحتلال سبّاقًا لإنهائها.

تقول والدة محمد: "حلمه الثاني كان يحوّش مصاري ويتزوج، كان يضل يقلي يما بدي أحوش مصاري عشان تفرحي فيي وتزفيني عريس، وهيني زفيته عريس بدمه بس أحلى زفة وأحلى عرس الحمد لله، الابتسامة كانت بوجهه، ووجهوا كان نور، هو تمنى الشهادة ونالها".

بعد مرور عدة أيام على استشهاده، تفتقده شقيقته الأسيرة السابقة سندس عبيد، التي كانت متعلقة به تحديدًا بعد خروجه من السجن. تقول: "فقدته كتير، كنا نتزاعل ويراضيني، محمد كان فرح البيت وجوّ البيت، كان يضحكني ويضل يحكيلي نيميني على سريرك، أخوي حبيبي وسندي بعد أبوي".

كانت سندس شاهدة على استشهاد شقيقها خلال المواجهات، ولكنها لم تكن تعرف في البداية أن الشهيد هو شقيقها تحديدًا، تشرح لنا ما حدث مبينة أن مواجهات "قوية" اندلعت في الحارة، وسمعت أصوات إطلاق نار، "أنا رحت أشوف، لقيت شباب متجمعين حكولي ارفعي راسك يا أخت الشهيد أخوك شهيد".

وأضافت أنها لم تصدق في البداية وظنت أنها تحلم، فسألت عن شقيقها محمد ومكان تواجده، ليرد عليها الشبان بأنه خلفها.

وتابعت، "لفيت وجهي لقيت أخوي بنزف مرمي ع الأرض فاتح إيديه، صرت أصرخ اصحى يا محمد اصحى يا محمد، بس كانوا عيونه مفتوحين بالسما وببتسم، وبعدها أخذوه الشباب يهربوه بس الجيش أخذه منهم".

الجدير بالذكر أنّ محمد أصيب برصاص ضابطٍ بشرطة الاحتلال الاسرائيلي خلال مواجهات شهدتها قرية العيسوية مساء الخميس 27 حزيران/يونيو 2019، ثم اختطف جنود الاحتلال جثمانه ليتم احتجازه أربعة أيام، حاولت خلالها شرطة الاحتلال فرضت شروطها في تشييعه، فاشترطت دفنه بحضور 50 شخصًا فقط في مقبرة شارع صلاح الدين، ودون أن تُرفع الرايات والأعلام، لكن عائلته رفضت هذه الشروط وأصرت على تشييعه في العيساوية بين أهله ودون قيود على العدد، حتى كان لها ما أرادت في أول أيام شهر تموز/يوليو الجاري.


اقرأ/ي أيضًا: 

محمد طارق.. فتى الثورة الصامت

هكذا جهز الطفل شادي شارع الفاخورة لعرسه

معركة الواد الأحمر.. شهداء نُسيت أسماؤهم