13-مارس-2017

تصوير إبراهيم أبو مصطفى (غزة)

على زوايا جُدران مشغلٍ صغير للخياطة بمخيّم الشاطئ للاجئين غرب غزة، حاكت عناكب شقراء صغيرة أنسجتها هي الأخرى على تلك الزوايا بعد أن بقي المعمل مهجورًا لسنوات، فيما بدأ خمسة عمال مؤخرًا بإنتاج متعلّقات دينية لليهود في "إسرائيل" استعدادًا لتوريدها إلى هناك.

 مشغل للخياطة وسط مخيم الشاطئ بغزة، يحيك القلنسوة (كيباه) التي يرتديها اليهود، ويُصدّرها لـ "إسرائيل"

فما إن تسنح لك فرصةُ بالدخول إلى مشغل أبو شنب الواقع شمال المخيّم الغارق في فقر سكانه؛ حتى تجد لفائف كبيرة من أقمشة الجينز والجوخ والقطن الفاخر تستعد لبسطها على مناضد العاملين لصنع قلنسوات ومعاطف وربطات أعناق يرتديها المتديّنون اليهود يوميًا وفي مناسباتهم التوراتية.

ما يُثير الاستغراب لبرهة، أن بعض تلك القبعات والمعاطف شبه الجاهزة وُضعت عفويًا على سجادة صلاة، وبالقرب منها مِسبحة خشبية يذكر فيها العاملون ربهم في دقائق الراحة في معملٍ لحياكة الملابس من أصل 150 فقط تعمل حاليًا في القطاع المحاصر، بعدما كانت ستة أضعاف ذلك العدد أوائل انتفاضة الأقصى عام 2000.

اقرأ/ي أيضًا: بالصور: قرية كور.. وحنين لأيّام "عزّ"

"الطهارة الدينية واحترام العقيدة اليهودية شرطان أساسيّان لموافقة التجار الإسرائيليين للسماح باستيراد تلك القلنسوات (كِيباه) والمعاطف من الخارج بحكم الرمزيّة الدينيّة"، يقول محمد أبو شنب صاحب المشغل. وهذان الشرطان لا يمكن أن يتوفرا لدى المصانع في الصين التي يُدين الغالبية الساحقة لسُكانها بالبوذية.

الطهارة الدينية واحترام العقيدة اليهودية شرطان أساسيّان لموافقة التجار الإسرائيليين للسماح باستيراد تلك القلنسوات

وتقول الأسفار التلمودية اليهودية: "غطِّ رأسك عسى أن تغشاك الخشية من السماء". ويُرْوى عن الحاخام "هوناه بن يشوع" أنّه لم يمشِ طيلة حياته أكثر من أربعة أذرع، دون ارتداء قلنسوة رأس، معتقدًا أن "الوجود الإلهي دائمًا فوق الرأس". وسيرًا على هذا النهج، يُعلل ارتداء الكيباه بأنه "توقير لله". وتحرص العديد من المجتمعات اليهودية على تشجيع صبيتها على ارتداء القلنسوة لتنشئتهم على تلك العادة.

ويروي أبو شنب الذي اتكأ على أحد جداران مشغله الذي أُلصقت عليه صورة قديمة للرئيس الراحل ياسر عرفات، حين عرض على "صديقه القديم" المستوطن "آفي" حياكة تلك المتعلقات التوراتيّة، فردّ عليه الأخير: "طالما أنكم تؤمنون بالنبي موسى وتتوضؤون لصلاتكم يوميًا، فشرط الطهارة الدينية محققُ لديكم، فلنبدأ عملنا يا صديقي محمد".

وحتى وقتٍ قريب، بقيت مئذنة مائلة لمسجد السوسي قريبة من مشغل أبو شنب شاهدًا على هندسة الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، والتي أزيلت فيما بعد، لكن "الاختلاف السياسي والعقائدي والوجودي لا مكان له في عالم المال والأعمال بين الفلسطينيين والإسرائيليين"، يقول أبو شنب لـ"ألترا فلسطين".

  قطاع الخياطة في غزة، يعاني أوضاعًا متردية بسبب الحصار، فـ150 مشغلًا تعمل الآن، بعدما كانت 6 أضعاف العدد مع اندلاع انتفاضة الأقصى

وُجهة نظر أبو شنب تقاطعت مع رأي مدير عام إدارة الصناعة في وزارة الاقتصاد بغزة عبد الناصر عواد، "فالتصدير للأسواق الإسرائيلية عمل تجاري خالص لصالح الطرفين، لكن تعقيدات إجراءات التصدير كمحدودية توريد المواد الخام لكافة القطاعات الصناعية إلى غزة تقف دائمًا حجر عثرة أمام أي انتعاش تجاري لصالح غزة".

اقرأ/ي أيضًا: القدرات الجنسية للأسرى السابقين.. السجن ما زال هنا

وعلى الرغم من الثُقب الاقتصاديّ الضيّق الذي فتحته السلطات الإسرائيلية أمام اقتصاد غزة؛ إلّا أنّ قطاع الملابس والنسيج أمامه الكثير لالتقاط أنفاسه، فالسنوات التي سبقت تلك الانتفاضة شهدت تصدير قرابة 130 ألف قطعة ملابس يوميًا على أيدي أكثر من 30 ألف عامل لصالح الأسواق الإسرائيلية، وفقًا لاتحاد صناعة الملابس والنسيج الفلسطيني.

ويعتقد بعضُ أصحاب 25 مشغلًا حصلت على موافقة مؤخرًا لاستئناف عملها للأسواق الإسرائيلية، أنّ تفضيل التجار الإسرائيليين للتعامل مع نظرائهم الغزيين نابعٌ من "الالتزام بالمواصفات والمقاييس الإسرائيلية وخصوصًا المتعلقة بالديانة اليهودية".

وعودة إلى معمل القلنسوات والمعاطف التي تنتج نحو 200 قلنسوة يوميًا، فإنّ نظراء محمد في الحِرفة وجيرانه لم ترُق لهم – حتى الآن- إنتاج مثل تلك المتعلقات لصالح "أشدّ الناس عداوة"، وأن أولئك اليهود لا يستحقون ذلك العناء.

اقرأ/ي أيضًا: أعشاب سامة في "دكاكين الطب البديل" بغزة

اليوم، يخطط أبو شنب والذي شغل سابقًا رئيس الاتحاد مع رفيق عمله "آفي" لتسويق منتجه "اليهودي" الذي يحمل علامة "مالموش" التجارية لصالح يهود الولايات المتحدة وفرنسا بواقع 30 ألف قلنسوة شهريًا، ليُعاد بيعها بثمانية دولارات، وفقًا لصفحة المتجر الإلكتروني للعلامة التجارية.

الخياط المخضرم أبو شنب (61 عامًا) والذي نجحت السنون القاسية بحفر خطوطها في وجهه المُحمرّ، يؤمن أنّ الصدق والإتقان هما كلمتي سرّ نجاح أيّ عمل حتى مع "عديمي الديانة".

 "العداء السياسيّ شيء والعمل شيء آخر"، يقول صاحب مشغل خياطة يُحيك القلنسوة اليهودية 

لكن شغف خيَاطنا المُتحمّس لعمله الجديد لم يقف عند توريد طلبيّات المستوطن "آفي"؛ فإمكانية خياطة الملابس المتقنة من مشاغل غزة الصغيرة لصالح الأسواق الخليجية أولى كما يرى من إنتاجها في بلاد "التوائم المتشابهة" الشديدة الثراء.

ويتساءل أبو شنب عن إمكانية عودة "الزمن الجميل" في سماع صرير المِقصَات وهدير عجلات آلات الخياطة لإنتاج حمّالات الثدي وليس القلنسوات اليهودية فحسب؛ لكن "هات شغل يا معلم" ونحن مستعدون، أمّا "الخوض في السجال السياسي بيننا وبينهم فلن يجلب سوى الخسارة وطول اللسان، لذلك، فلنترك السياسة لعُشّاقها".


اقرأ/ي أيضًا:

عقوبة جلد في مخيّم قلنديا!

غزة: تعذيب ومحاكمات عسكرية وأحكام إفراج لا تنفذ

لهذه الأسباب ارتفعت أسعار الدجاج.. فما الحل؟