05-يناير-2021

لوحة فنية لحنين ياسين، لغلاف كتاب "أساطير الأولين"

مقال رأي |

لا أدري ما الذي حدا بـ (عبد الغني سلامة)، حتى يلجأ للأساطير بدلًا من الواقع كي ينسج قصصه على "نولها"؟ ولا لماذا اختار (أساطير الأولين)، تحديدًا، لتكون عنوانًا لمجموعته القصصية التي صدرت مؤخرًا عن مكتبة "كل شيء" في حيفا، وضمّت 20 قصة!

ثلاث قصص فقط تشبه فلسطينه: (حوار سريع على حاجزٍ طيار)، (في الطريق إلى صفد)، و(حوارٌ خاصٌ جدًا في زنزانةٍ انفرادية).

نعم، أُدرك أن الإنسان عندما يذهب لكتابة قصةٍ ما، فإنه، بشكلٍ أو بآخر، إنما يكتب أسطورته الذاتية، لكن لماذا ذهب سلامة إلى خارج المكان، مكانه هو، فلسطين التي يعيش فيها، ليكتب عمّا هو خارجها، باستثناء ثلاثٍ من هذه القصص تشبه فلسطينه: (حوار سريع على حاجزٍ طيار)، (في الطريق إلى صفد)، و(حوارٌ خاصٌ جدًا في زنزانةٍ انفرادية)؟!

مع أن القصص الثلاث المشار إليها تشبهه، يبقى السؤال، وهو هنا ليس استنكاريًا، لماذا لم يختر اسم أية واحدةٍ منها ليكون عنوانًا للمجموعة، وفضّلَ بالمقابل الأساطير، وتحديدًا (أساطير الأولين) لتكون هي العنوان؟!

 يفعل ذلك للتركيز على الأشكال المختلفة لمعاناة الإنسان، حتى عندما كان هذا الإنسان عدوًا: محتلًا، مستعربًا، وسجانًا

مع ذلك، وفي القصص العشرين، كان ثمة خيط ناظم حرص سلامة، ربما من حيث يدري أو لا يدري، على الإمساك به، كي لا يفلت منه، وهو يحيك ثوب كل قصةٍ من قصصه، وكان الخيط يقوده.

هو يفعل ذلك، للتركيز دائمًا على الأشكال المختلفة لمعاناة الإنسان، حتى عندما كان هذا الإنسان عدوًا: محتلًا، في قصة (حوار سريع على حاجز طيار)، مستعربًا، في قصة (في الطريق إلى صفد)، وسجانًا في قصة (حوار خاص جدًا في زنزانةٍ انفرادية).

هذا الأمر يُحسب تمامًا لسلامة، تمامًا كما يُحسب له ولوج مغامرة الكتابة عن المكان، عندما لا نكون داخله، وهو أمرٌ جازف بخوض غماره في باقي قصص المجموعة، باستثناء القصص الثلاثة، إياها، وقصتَي (حياة مؤجلة) و(ذاكرة مؤقتة).

لقد أوصلت المغامرة سلامة في قصة (برقيات عاجلة من الفضاء) إلى القمر، وخلالها استطاع كسر القيود التي تتحكم بالفلسطيني بفعل الحواجز والجدار والحصار، وباقي إجراءات الاحتلال، وأن يذهب بعيدًا مستكشفًا معاناة وقلق أخيه الإنسان في أماكن عديدة أخرى: في السودان، سوريا، اليابان، أمريكا، الصين، ومصر، وحتى أن يذهب إلى أماكن وقصص بعيدة تعود إلى آلاف السنين من المعاناة والزمن الغابر، وبقيت فلسطين معه حتى عندما صعد برامي، ابن بلدة بيتونيا الواقعة غرب مدينة رام الله، إلى الفضاء!

الكتابة عن المكان من خارجه، مغامرة محفوفة بالمخاطر، يُحسب لعبد الغني سلامة جسارة الخوض فيها

نعم. الكتابة عن المكان من خارجه، مغامرة محفوفة بالمخاطر، يُحسب لعبد الغني سلامة جسارة الخوض فيها، رغم خصوصية الحالة الفلسطينية التي تجعله منشغلًا بتفاصيلها، ومن هذه المخاطر، غياب الحميمية التي تتوفر لدى الكاتب في علاقته بالمكان، وتزداد كلما كان قريبًا منه، وتقل كلما بَعُد عنه، وما يرتبط بذلك من صدقٍ فنّي، وتدفقٍ سردي.

كان عبد الغني سلامة جَسُورًا أيضًا في المراهنة على قدرة القارئ على تحمل عبء كل هذا البؤس والقلق الذي كان يخيم على شخوص معظم القصص، بل على معظم السردية  التي تحكم سيرورة القصص نفسها، فالجو العام الذي يحكم عالم مجموعة (أساطير الأولين) جو تشاؤمي، لكنه لم يكن غريبًا عن المقولة التي أراد الكاتب قولها في مجموعته، لا أظن من باب إعادة إنتاج مرارة الواقع، بل من باب نقد هذا الواقع وتعرية بؤسه!

اقرأ/ي أيضًا: كتاب إسرائيلي يوثق النهب اليهودي لأملاك العرب إبان النكبة

على نفس منوال الكاتب السوري زكريا تامر في مجموعاته القصصية (النمور في اليوم العاشر)، و(رمادٌ في الربيع)، و(رعد)، ربما كان سلامة ينسج قصصه، وهنا أتساءل: ماذا كان سيحصل مع هذا الكاتب الفلسطيني المحكومة حركته بمزاج الجندي على الحاجز الإسرائيلي الثابت أو الطيار، لو تفلّت من ربقة هذا الاحتلال، وعاش تفاصيل البؤس الإنساني كما أُتيح ذلك مثلًا لـ محمد شكري في (الخبز الحافي)، وجورج أورويل في (متشردًا في باريس ولندن)؟!

لم يتسن لسلامة الإمساك بمجموعته، مطبوعةً بين يديه، واستنشاق رائحة ورقها، إلا بعد وقتٍ من إصدارها في حيفا

أظن أن المقارنة والمقاربة ستكون فادحةً صادمة، إذا عرفنا أنه لم يتسن لسلامة الإمساك بمجموعته، مطبوعةً بين يديه، واستنشاق رائحة ورقها، إلا بعد وقتٍ من إصدارها في حيفا، حيث لا يستطيع الوصول إليها وهي عروس وطنه.

هذا يحدث تمامًا مع غالبية الكُتّاب الفلسطينيين، الذين، وبسبب ظروف الاحتلال، وعدم وجود دور إنتاجٍ عامةٍ للكتب في بلادهم، يُضطرون لطباعتها في الخارج.

ربما لهذا السبب أيضًا، يمكن اعتبار مغامرة سلامة في الكتابة عن المكان من الخارج مغامرة، حتى لو تكبد خلال خوضها بعض الخسائر الفنية، فإن الأمر استأهلَ بعض العناء الذي يستحق عليه رفع القبعة تحية له!


اقرأ/ي أيضًا:

ماذا قرأ العرب في 2020؟

ماذا كتب الأسرى في 2020؟