22-مايو-2021

المفكر العربي عزمي بشارة

الترا فلسطين | فريق التحرير 

قدّم المفكر العربي عزمي بشارة، اليوم السبت، محاضرة حول "راهنية النكبة وقضية فلسطين عربيًا" من تنظيم مؤسسة الدراسات الفلسطينية والمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.

وقال بشارة في مطلع المحاضرة إن الأوضاع الحالية في الأراضي الفلسطينية تجسّد راهنية النكبة، بالنظر إلى أنها انطلقت من مسألة تقع في جوهر الاستعمار الاستيطاني، أي الاستيلاء على الأرض واستبدال الناس، وهي أمور تذكِّر بأساس النكبة، من الترحيل والتطهير العرقي والسلب والإحلال.

شّبه كبير بين ما جرى في فلسطين، وبين بدايات الثورات العربية، إذ يشترك كلاهما في الخلفية القائمة على الإحباط المتراكم، ومركزية مسألة الكرامة

وفي معرض تحليله للوضع الفلسطيني الراهن، أشار بشارة إلى الشّبه الكبير بين ما جرى في الأسابيع الماضية في الأراضي الفلسطينية وفي الشتات الفلسطيني، وبين بدايات الثورات العربية، حيث يشترك كلاهما في الخلفية القائمة على الإحباط المتراكم، ومركزية مسألة الكرامة، وهو ما يجعل الهبّة الفلسطينية الأخيرة صورة مصغّرة عن الثورات العربية.

المفكر عزمي بشارة في محاضرة حول "راهنية النكبة وقضية فلسطين عربيًا"  

على هذا النحو يؤكد بشارة أنه لا بد من فهم خلفيّة الأحداث الراهنة في فلسطين من خلال فهم الإحباط المتراكم لدى الفلسطينيين، الناجم عن استمرار الاستيطان وتهميش القضية الفلسطينية والتجاهل الدولي، بالإضافة إلى ما تم خلال إدارة ترامب ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، ثم إعطاء ضوء أخضر للمستوطنين، وإلغاء الانتخابات الفلسطينية رغم أنها كانت مُسكّنًا لا علاجًا. تُضاف إلى ذلك الانتهاكات المستمرة للمسجد الأقصى، وشعور مشروع لدى بعض الفلسطينيين بأن هناك محاولات إسرائيلية لتعويدهم على أنّ المسجد الأقصى سيتم تقاسمه كما تمّ تقاسم الحرم الإبراهيمي.

هذا التراكم، فجَّره -كما يبيّن عزمي بشارة- موضوع التهجير والإحلال في الشيخ جراح، ما دفع الشارع الفلسطيني كاملًا إلى الفوران، وعلى نفس النحو يجيء تدخل فصائل المقاومة كمحاولة للثأر للكرامة الفلسطينية. وبالتالي فإن معظم النقاش حول الانتصار الفلسطيني، يدور بالأساس حول شعور الناس بأن هناك من ردّ على "إسرائيل"، إذ إن الشباب العربي من الجيل الرابع والخامس بعد النكبة، يريد هذا الردّ من أجل كرامته وإنسانيّته.

  بشارة: الشّعور الفلسطيني بالإحباط المتراكم فجّره التهجير والإحلال في الشيخ جراح، ما دفع الفلسطينيين إلى الفوران، وتدخل فصائل المقاومة من غزة، جاء كمحاولة للثأر للكرامة الفلسطينية  

أمّا بشأن التغيير الذي أحدثته الهبّة الأخيرة، أشار المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات إلى أنّ وحدة الوطن الفلسطيني كانت من المعالم الأساسية لهذا الحراك الأخير. ففي حين قامت "إسرائيل" على أساس قرار تقسيم فلسطين عام 1947، واستمرّت في سياسات شرذمة الوطن الفلسطيني، فإن هذه الانتفاضة أعادت التفاعل من جديد وأعادت التواصل بمستويات مختلفة.

ولا يتعلق هذا التواصل بين الفلسطينيين في الداخل وبين الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة فقط، ولكن أيضًا بين الضفة وغزة، حيث تولّد شرخ كبير وغير مسبوق في التاريخ الفلسطيني بينهما. وفي حين تكررت الأحاديث عن أن غزة أصبحت إمارة إسلامية منفصلة عن بقية فلسطين، فإن المقاومة استطاعت التغلّب على هذا الشرخ الجغرافي والسياسي الخطير وغير المسبوق، من خلال التدخل للدفاع عن القدس.

بشأن هذا التدخل، رأى عزمي بشارة أن ما طوّرته فصائل المقاومة الفلسطينية من حيث التحصينات والقدرات العسكرية، أمر فاجأ كثيرين، وسيغيّر معادلة الردع. فالحرب في غزة كانت حرب ردع، قابلتها حرب لردع الردع، إذ ردّت "إسرائيل" على تدخل فصائل المقاومة بقصف وحشي، وإبادة عائلات كاملة.

  ما طوّرته فصائل المقاومة الفلسطينية فاجأ كثيرين، وسيغيّر معادلة الردع  

كما وضح صاحب "من يهودية الدولة حتى شارون" دخول قوى جديدة إلى المعادلة منها الحزب الديمقراطي الأمريكي ما بعد دونالد ترامب، مشيرًا أنه لو بقي ترامب في البيت الأبيض لاستمرت الحرب، ولاختفى الدور المصري الذي يقوم في تقديره على محاولة إرضاء إدارة جو بايدن.

في السياق، اعتبر عزمي بشارة أن الإسرائيليين دأبوا منذ الانسحاب من غزة على التعامل مع القطاع بمنطق غريب، إذ يعتبرون أنهم خرجوا منه دون أن تتوقف الصواريخ، وهي مجادلة يتم استخدامها على نطاق واسع ضد الانسحاب من الضفة الغربية في أوساط اليمين، وبشأن الانسحابات والتسويات بشكل عام.

على عكس هذا الفهم الإسرائيلي المتناقض، أو التصوّر بأنّ مسألة القطاع بدأت منذ احتلاله عام 1967، يوضح المفكر العربي أنه لا يمكن فهم غزة كما لا يمكن فهم الصراع العربي الإسرائيلي بالبدء من عام 1967، ولكن يجب فهمها من خلال النكبة؛ أمر يمكن لتوضيحه الاستعانة بحقيقة أن أكثر من 95 بالمئة من سكان غزة لاجئون من مدن الداخل الفلسطيني.

ولتأكيد هذه المجادلة استشهد بشارة بخطاب لموشيه دايان الذي يمثّل الجيل الأول من المستوطنين، بشأن الفلسطينيين الذين حاولوا التسلل في خمسينات القرن الماضي من غزة إلى الأراضي المحتلة، اعتبر أنّه لخص جوهر الاستعمار الاستيطاني، الذي يعيش على السلاح، لأن المستوطنين فيه يعرفون جيدًا ما يفعلونه.

 وحدة الوطن الفلسطيني كانت من المعالم الأساسية؛ فهذه الانتفاضة أعادت التفاعل من جديد وأعادت التواصل بمستويات مختلفة  

في جزء آخر من المحاضرة، أشار عزمي بشارة إلى رمزيّة القدس سواء بالنسبة للفلسطينيين، باعتبارها مسألة سيادية، أو من خلال توضيح تحوّلها إلى جزء من رواية توراتية صهيونية. كما وضّح الاستراتيجيات الإسرائيلية المستمرة لتحديد الملامح الجغرافية والديموغرافية للمدينة، من خلال أطواق العزل والتهويد، التي تسعى لمحاصرة الأحياء العربية في البلدة القديمة وتحويلها لمنعزل.

وبشأن راهنية النكبة بالنسبة للعرب أيضًا، أعاد المفكر العربي التأكيد على أطروحته السابقة، بأن فلسطين هي قضية العرب الأولى بوصفهم عربًا، وهذا لا يتعارض مع أولوياتهم الوطنية. ففي حين أن سوريا هي قضية السوري الأولى كسوري، تبقى فلسطين القضية الأولى كرافعة لهويته العربية. فيما أشار إلى أن الأنظمة العربية بعد اتفاقيات السلام مع "إسرائيل" سعت إلى التعامل مع الصراع كأنه يبدأ مع حرب حزيران عام 1967، ويدور  حول استرجاع الأراضي التي تم احتلالها، والتخلي بالتالي عن دورها التاريخي في الصراع، وهو ما انتهى بتبني النموذج فلسطينيًا وفهم الصراع كصراع فلسطيني إسرائيلي.

 الأوضاع الحالية في فلسطين تجسّد راهنية النكبة، بالنظر إلى أنها انطلقت من مسألة تقع في جوهر الاستعمار الاستيطاني، أي الاستيلاء على الأرض واستبدال الناس 

هنا، فإن راهنية النكبة في معارضة الرواية التي تعتبر عام 1967 صفر القضية الفلسطينية، حيث إن التأكيد على أن قضية فلسطين بدأت مع النكبة، يجعل من الصعب فهم الصراع كموضوع يخص الفلسطينيين فقط، أو اختصار العداء مع "إسرائيل" إلى قضية تتعلق باسترجاع الأراضي العربية المحتلة.

كما أن راهنية النكبة تعني راهنية قضية اللاجئين الفلسطينيين، التي غالبًا ما تذكر كأنها أمر مقدّس داخليًا في بعض الدول العربية، من أجل رفض منح حقوق للاجئين الفلسطينيين. دون أن يكون موضوع حق العودة مطروحًا على طاولة المفاوضات مع الأنظمة العربية.

رغم ذلك، فإنه لا يمكن اختصار الدول العربية بالأنظمة، كما يؤكد بشارة مستشهدًا بنتائج المؤشر العربي، وهو أكبر استطلاع للرأي يجريه المركز العربي للأبحاث، أن فلسطين تبقى قضية العرب الأولى. إضافة إلى ذلك، فإن قبول "إسرائيل" بعد كل هذه المحاولات الدؤوبة للتطبيع، لم يدخل إلى عمق الشارع العربي، وهو أمر يبدو واضحًا حين يثور الشارع الفلسطيني.

  الأحداث الأخيرة نسفت أطروحة أن قضية فلسطين هامشية لدى العرب 

وبالمثل، فإن الأحداث الأخيرة نسفت أطروحة أن قضية فلسطين هامشية لدى العرب، وهو افتراض تطوّر لدى بعض المسؤولين الأمريكيين، وتبنّاه صهر ومستشار الرئيس الأمريكي السابق جاريد كوشنير، معتقدًا أن بالإمكان التطبيع ونقل السفارة بدون حل القضية الفلسطينية، ودون أن يكون هناك أي ردة فعل. على عكس ذلك، فإن هذا الحراك الفلسطيني الأخير يمثل ثورة على هذا الادّعاء، إذ إن الرفض الشعبي الكبير لدول التطبيع رافق هبة الشارع الفلسطيني، وهو رفض شعبي للتطبيع كان مكتومًا وانفجر مع انفجار الشارع الفلسطيني.

تاريخيًا، فإن صاحب "في المسألة العربية" قدم عدة مجادلات تفنّد الرواية الإسرائيلية بشأن النكبة. بداية، فقد وضح أن التطهير العرقي للفلسطينيين بدأ قبل إعلان ما سمّته "إسرائيل" بالاستقلال وقبل دخول الجيوش العربية، وهو ما يفنّد الأسطورة الصهيونية بأن الفلسطينيين هُجّروا خلال الحرب أو بسبب طلب من الجيوش العربية، حيث إن غالبية المدن الفلسطينية هُجّرت قبل ذلك. وفي السياق أشار بشارة إلى "خطة دال" التي وضّحت أن التهجير والسيطرة على المدن والقرى الفلسطينية كانا ضمن استراتيجية مخطط لها وممنهجة.

كما أن التهجير لا يتعلق فقط بترك الفلسطينيين مجبرين لأرضهم، ولكن أيضًا بالمنع الممنهج لعودتهم، سواء بالقوانين أو من خلال قتل الآلاف ممن حاولوا العودة تسللًا.

 بشارة: لا يجوز لمن يتبنى مشروع مقاومة أن يناصر الاستبداد  

هنا يشير بشارة إلى مركزية الأرض في مشروع الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، ويؤكد على عدم وجود أي تناقض بين هوية "إسرائيل" كمشروع استعمار استيطاني أو كدولة فصل عنصري، مؤكدًا على هذا النحو أن القانون الإسرائيلي مصمم من أجل سلب الأرض الفلسطينية، ومُشكِكًا بالتالي بجدوى الاستعانة بالقانون الإسرائيلي في مسألة الأراضي.

كما اعتبر أنه لا يمكن النّضال ضد "الأبرتهايد" الإسرائيلي إلّا من خلال خطاب ديمقراطي، ولا بد من التفاعل مع قضايا الشعوب الأخرى، فلا يجوز لمن يتبنى مشروع مقاومة أن يناصر الاستبداد، كما أنّ التّخلي عن مقاومة الاستعمار يهدد بخسارة التضامن الذي تكتسبه القضية الفلسطينية من شعوب الجنوب العالمي.


اقرأ/ي أيضًا:

انتصرت غزّة، ماذا بعد؟

في ضرورة التحرر من نكبة الوهم والاستسلام للصهيونية

عزمي بشارة: الشارع المقدسي يحاصرُ التواطؤ الإقليمي