30-نوفمبر-2018

قد تبدو العودة المتأخرة الآن إلى السجالات الإلكترونيّة الأخيرة حول قضية اختطاف "يونس قنديل" في الأردن وما كشفته تلك السجالات من "عزلة صاخبة جدًا" يعيش فيها كثيرون ممّن يبدون شيئًا ويُبطِنون أشياء أخرى؛ قد تبدو العودة غير ضروريّة وغير لازمة. 

في الاغتيال المعنوي

عشرات آلاف الحسابات الإلكترونية – وسأكتب هنا الحسابات الإلكترونيّة لأنّ أصحاب هذه الحسابات على ما يبدو لا يستطيعون الوجود إلَّا عبرها، فهم بطريقة أو بأخرى مجرّد حسابات إلكترونيّة ناطقة – مستعدّة في لحظة للتفاعل مع أيّ خبرٍ كان مصدره موثوقًا أو غير موثوق، مع أيّ قضيّة كانوا على معرفةٍ بها أو يجهلونها، مع أيّ حادثة كانت متعلّقة بهم أو لا تمتُّ لهم بصلة، مستعدّة في تلك اللحظة أن تغتال شخصًا معنويًّا واجتماعيًا وتدمّر صورته إلى الأبد. تلك تُسمّى "زوبعة إلكترونيّة في فنجانٍ إلكترونيّ"، وتمضي تلك الحسابات في طريقها لتدمير صورة أخرى، صورة إنسان قد لا تعرفه بالمطلق، مجرّد إنسان بطريقة أو بأخرى ارتكب خطأ ما، أو وجد نفسه عُرضة لهجمة لا يعرف مصدرها ولا حتى معناها؛ لا أحد في تلك اللحظة على استعداد أن يتوقّف للحظة قبل كتابة منشور سخيف لتشويه صورة ذلك الإنسان أو التساؤل حتى عن وجود هذا الإنسان الأبعد من الصورة الإلكترونيّة التي يوشك على تشويهها إلى الأبد، صورة عائلة في مكان ما، صورة لإنسان من لحم ودم، ذاكرة، عقل، شيء من هذا القبيل!

    زوبعة إلكترونيّة في فنجانٍ إلكترونيّ    

 لكن على ما يبدو، صِرنا إلى مجرّد صور إلكترونيّة نختار تشويه بعضها كلّ يوم. "حفلة قباحة" غير معقولة، والآن أفكّر أنّ العودة إلى تلك السجالات ليست حقًا غير ضروريّة؛ حفلة القباحة تلك موجودة كلّ يوم، بل هنالك عشرات آلآف الحفلات الإلكترونيّة كلّ يوم في "مجرّة الحسابات الإلكترونيّة الناطقة والتي تُمثِّلُ عبر برمجتها بشرًا لم يعودوا قادرين على أن يكونوا كذلك بعد الآن".

ذلك معنى القباحة. يخطر لي الآن عبارة لميلان كونديرا يقول فيها ما يُشبهُ أنّه يحلمُ بعالمٍ يُجبَرُ فيه الجميع على الصمت أو الخرس، لست متأكّدًا، لكنّ المعنى واحد على كلّ حال. 

شيء مريع ومروّع أن كلّ حفلة قباحة تستجلب أخرى. ولكل حفلة روّادها ومتسلّقيها. لم يبق إنسان زاد عدد متابعيه عن آلأف ولم يشارك في حفلة قباحة من وقت لآخر. في اغتيال معنويّ أو اجتماعيّ لصورة إلكترونيّة هنا أو هناك. وكلُّ عملية لا تشبه الأخرى بالتأكيد؛ أكره أن استجلب أسماء تستحقُّ العيش في الذاكرة إلى مقالة ستُنسى على كلّ حال، مع ذلك، سأستعمل الألقاب؛ انتشر خبر مقتل المهندسة فراح كثيرون يبدأون حفلة تفاهتهم/ قباحتهم وهم يصوّرونها على أنّها مريضة نفسيًا والبعض الآخر يصوّرونا صورة غاية في البشاعة لا تحتمل حتى الكتابة. في يوم آخر، حفلة قباحة/ تفاهة حول شهيد تُشكِّكُ في دوافعه وتشمئزُّ من حبّ الناس له. في يوم آخر، فتاة شقراء لا أحد يُعجبهُ أنّها سُجِنَت. في يوم آخر، المطالبة بالموت لمؤلّف كتب كتابًا حول جريمة ما في مدينة تعجُّ بالجرائم الإلكترونيّة يوميًّا. في يوم آخر وكلّ يوم بالطّبع، حملات تشويه إلكترونيّة وقودها النّاسُ ومنشوراتهم الإلكترونيّة لعدد لا يُحصى من البشر المشهورين بشكل أو بآخر.

    كأنّها مصيدة ما، لكنّها المصيدة التي يتمنّى كثيرون الوقوع فيها طواعية وعبر عمل جادّ دؤوب  

 هنالك حاجة مرضيّة لا يمكن تفسيرها إلّا على أنّها مرضيّة تجعلُ من النّاس طواعية يُحوِّلون أنفسهم إلى مجرّد حسابات إلكترونيّة لا تستطيع كبح جماح رغبتها بالاحتفال بسقوط الآخرين أو بتشويههم أو بتمزيق سيرتهم الذاتية أو الاحتفال بمعاناتهم والشماتة علنًا في "عزلتهم الصاخبة جدًا" من وراء الشاشات الإلكترونيّة وهواتفهم الصغيرة التافهة. حاجة مرضيّة هي في النّاس منذ آلاف السنين ولكنّها الآن تصلُ حدًّا لا يُمكنُ احتماله. حاجة مرضيّة أخرى على الجهة المقابلة يبدو أنّ من يقترب من اكتشافها بالمصادفة أحيانًا وأحيانًا بالعمل الجادّ، هي حاجة النّاس إلى "المُتابعة"! أعرف أنّ البعض يجهد كثيرًا قبل كتابة منشور ليعجب به الآخرون، البعض يعيد كتابة منشوره مرّات ومرّات قبل كتابته ونشره على الفيسبوك. البعض الآخر يتعبّد في معبد المشهورين حالمًا أن يكون مثلهم. بعض آخر يجد نفسه مدفوعًا إثر صدفة منشور لم يكن مقصودًا لأن يكون مُتابعًا من قبل الكثيرين فلا يعود قادرًا على المقاومة. كأنّها مصيدة ما، لكنّها المصيدة التي يتمنّى كثيرون الوقوع فيها طواعية وعبر عمل جادّ دؤوب.

 لكن أن تكون مُتابعًا يعني أن تكون قادرًا على الوقاحة من جهة، ومن ثمّ على الجُرأة التي لا يمتلكها كثيرون. ذلك يعني أن تتقدّم لتُدلِي بأشدّ التفاهات قبحًا وتفاهة من جهة، هذا يعني أن تتخلّى عن إنسانيّتك بدرجة أعلى من الآخرين المتفرّجين. لأنّ الأمر في النهاية مُجرّد "فرجة" يبدو أنّنا غير قادرين على مقاومتها. 

هل للأمر ارتدادات؟ ربّما. هنالك قصّة في مسلسل "Black Mirror"، حيث تستطيع الحسابات الإلكترونيّة كتابة هاشتاغ: الموت لفلان، ومن يحصلُ على أعلى نسبة من الهاشتاغ يقضي نحبه فعلًا بطريقة مميّزة، أمّا الجزء العبقريّ في القصة، فهو في أنّ كلّ من شاركوا ذلك الهاشتاغ يموتون بنفس الطريقة وهم مئات الآلاف. ربّما لهذه القصّة مغزى سيصعب شرحه بالكامل هنا، لكنّ اللبيب من الإشارة يفهم.

في النهاية، ماذا عن تلك السجالات حول حرية الاعتقاد، الرأي والرأي الآخر.. إلخ ورعب المطالبات بالموت والجحيم؟ ذلك مجرّد فشل مرعب لمئة عام كان البعض يتصوّرها مئة عام من النهضة لكنّها تبيّنت على أنّها انتكاسة في الفكر لا رجعة عنها على ما يبدو؛ وتلك مسؤولية ليست على المثقّفين وحسب، بل مسؤوليتنا جميعًا التي فشلنا وكلّما استيقظنا صباحًا، نفشلُ مرّة أخرى في تحمّلها. 


اقرأ/ي أيضًا: 

أخلاقيات طائرات "درونز"

هل سيقايض القضاة استقلال القضاء بمنافع مالية؟

عندما يتعبك الحُب هل ستنقذك الكراهية؟