10-أكتوبر-2017

خديجة خويص | صورة أرشيفية

في يومي الأوّل في سجن الرملة، انتزعوا الدّبابيس التي أثبّت بها حجابي. ثم بعد رجوعي من محكمتي الأولى، أخبروني أن معاصم يديّ ممنوعة في السجن، بحجّة أنّها زيادةٌ عن اللباس، أخذتها منّي السجّانة وألقتها في سلّة القمامة القريبة، استطعت أن أتجاوز أمر المعاصم؛ إذ أن أكمام جلبابي كانت ضيّقة ممّا يغنيني عن المعاصم.

وذات ليلة بينما كنت عائدة لزنزانتي بعد يومٍ طويلٍ في "البوسطة"، ولم أكد أغمض أجفاني، حتّى تمّ استدعائي للتحقيق، جهزّت نفسي وكنت قد غسلت جواربي، فلبستها مبتلّة، ولما قيّدت السجّانة قدميّ قالت لي عند عودتك ستخلعين جواربك! عدت من التحقيق بعد الواحدة ليلاً والسجانة تنتظرني، أخذت جواربي ورمتهما في سلّة القمامة.

أجبرني السجانون أولاً على خلع دبابيس حجابي، ثم نزعوا معاصمي وأخذوا جواربي، ثم نزعوا عني جلبابي وحجابي

مرّت 10 أيّام على الاعتقال، وأنا في زنزانتي معزولةً عن الجميع، بين صلاتي وقرآني ودعائي ومناجاتي وبكائي لله عزّ وجلّ بأن يرفع هذه المحنة. في ذلك الحين، كنتُ مثالاً للهدوء والاتزّان في السّجن، بينما كان يعجّ قسم العزل بالصراخ والشتائم والجنون.

اقرأ/ي أيضًا: المحررة عطاف عليان والفدائي الذي قتلها عشقًا

خرجت لمحكمتي الخامسة، وعندما عدت للسجن، ناداني الضابط المسؤول هناك وأبلغني بالانتهاك الجديد، قال: "من اليوم فصاعدًا يُمنع عليك ارتداء الحجاب والجلباب داخل القسم". لم أعرف حينها بأيّ لغةٍ أخاطبه لأفهّمه أنّ ذلك غير معقولٍ أبدًا، فلم تسعفني أي كلمة وأنا القوية دومًا، أنا التي لا أبكي أمام سجّاني حتى لا يشمت بي، وحتى لا ينتشي بقوته. مع ذلك كلّه لم أتمالك دموعي ذلك اليوم، بكيت أمامه بحرقة، لا يمكنني أن أفعل ذلك، ولن تفعل أنت.

أوصلني الضابط المسؤول بنفسه إلى باب القسم، طلب مني الضابط أن أخلع جلبابي وإلا خلعوه بالقوة، اضطررت لخلعه أمامهما. أدخلوني زنزانتي أجرّ أذيال قهري، فانفجرت باكيةً لا ألوي على شيء، حاولتُ ضبط دموعي ، لكنها كانت تسيل رغماً عنّي

أنا التي بلغتُ الأربعين ولم أخلع حجابي مذ كنت في السابعة، ولم يرني أيّ أجنبي دون جلبابي مذ كنت في الخامسة عشرة، واليوم يراني الأنجاس وأراذل الخلق بلا حجاب أو جلباب! بكيت كما لم أبكِ من قبل، صرخت، كبّرت، ناديتُ المعتصم وصلاح الدين، قلت واربّاه، واغوثاه وا إسلاماه، وامعتصماه، لكن لم تجبني سوى جدران الزنزانة بصدى الصوت.

بقيت ما يقارب الساعتين غير قادرة على التوقف عن البكاء، صليت يومها بلا حجاب أو جلباب، ودعوت الله أن يلقيَ عليّ النّوم حتى لا ينفطر قلبي من البكاء، فنمت حتى الفجر، ليدخل عدد من السجانين من أجل العدد (التأكد من عدد المعتقلين داخل الأقسام وزنازين العزل)، بينما كنت أخبئ رأسي بين يدي.

عند وقت الظهر، اقتحم عدد من السجانين الزنزانة مرة أخرى لتفتيشها، فانفجرت باكية من جديد، حاولت إقناعهم بأن حجابي وجلبابي هما جزء مني، وانتزاعهما كما انتزاع جلدي وسلخه، ولا تصح صلاتي بدونه، ولا يجوز أن يراني الرجال بدونه.

يومها نقلوني إلى زنزانة أخرى، دون أن أعلم السبب، ظننتها أفضل حالاً، ولما صرت فيها، وجدت مساحتها تبلغ مترين في مترين، ومياه المرحاض تسيل على أرضيتها، رفعت الفراش لأتفقده، فوجدت تحته الصدأ والماء وصراصير ميتة، تفقدت المرحاض، فإذا به يمتلئ بالفضلات والمناديل الورقية، فتحت مضخة المرحاض ليبتلع ما فيه من "القرف" والنجس، فبقيت المضخة عالقة طوال الليل، تصدر صوتًا يصرع من يسمعه.

كنت حينها تحت الرقابة على الدوام، كاميرتان ترصدان مكان النوم والمرحاض ذو الباب القصير، ذو الزجاج الشفاف الذي يصف ما خلفه، فيما تُقابل زنزانتي غرفة السجانة، وكل داخل وخارج من السجانين يتفقد الوافد الجديد في هذه الزنزانة القذرة.

لم يكن حمّاما في زنزانة، بل زنزانة في حمّام، كاميرا المراقبة تكشفه، وبابه القصير ذو الزجاج الشفاف لا يخفي شيئًا، وأرضيته نجسة

لم يكن حمّامًا في زنزانة، بل زنزانة في حمّام! توضأت لأصلي العشاء، هذه المرة لم أصلِ بدون حجابي وجلبابي فقط، بل بدون السجود أيضًا، لأن الأرض شديدة النجاسة.

في اليوم التالي، عند الساعة الخامسة فجرًا؛ أعطوني حجابي وجلبابي لأخرج بهما إلى المحكمة، فوصلتها منهكة من السفر والبكاء المتواصل، ومن السهر الإجباري بسبب صوت مياه المرحاض، فبدوت شاحبة حزينة كئيبة على غير عادتي، وغير ما اعتاد أن يراني عليه الجميع.

في الصورة؛ كنت أقول للمحامي كيف انتزعوا حجابي وأجبروني على خلع جلبابي؛ وعن وضع الزنزانة الجديدة وقذارتها؛ وكيف أنّه للمرة الأولى في حياتي يراني الرجال بلا لباسي المستور، وأنّني صليت دون سجود ولا لباسٍ ساتر. يومها اجتمع قهر الدنيا كلّه في ملامح وجهي، ولمّا ترافع عنّي المحامي، ووصف لهم ما يحدث لي في السجن، وانتزاعهم حجابي وجلبابي، أُصيب الحاضرون بالوجوم، ونجح المحامي في استصدار أمرٍ من المحكمة بعدم انتزاع جلبابي وحجابي، وإعادتي لزنزانتي الأولى، غير أني عندما عدتُ إلى المعتقل، عاودوا قهري وانتزاع جلدي مرة أخرى، وأودعوني مسلخهم القذر من جديد.

هذه المرّة، قررت انتزاع حقي ولو بأسناني، صرخت وشرعت في التكبير لأربع ساعات متواصلات، حتى أتوا إلي بمدير السجن، أظهرت له قرار المحكمة، فاضُّطر للالتزام به، وكانت تلك فاتحة الانتصار الذي تكلل لاحقًا بتحرري من الاعتقال.


اقرأ/ي أيضًا: 

هدده المحققون بزوجته وقطعوا خلفه.. ولم يرضخ

سجن النقب الصحراوي.. أحلام بالثلج

أبو هنود صياد النخبة الإسرائيلية