27-أغسطس-2017

من أسوأ الذكريات التي يمكن أن يرويها الإنسان، هي معايشته للموت. وحدهم الناجون من يعي معنى "بلغت القلوب الحناجر". عشرات العائلات في قطاع غزة عاصرت هذا الواقع إبان الحرب الأخيرة تموز/ يوليو 2014، وقتما كان حصد الأرواح بالجملة، لكنّ عددًا لا بأس به ساقهم القدر إلى الحياة من جديد، وقدّر لهم أن يرووا مأساتهم في الذكرى الثالثة للحرب.   

 قصص للناجين لا تزال تحتفظ بها الذاكرة جيدًا، وتظل تحمل دلالة على أن الأمل لا يمكن أن ينتزع من قلب إنسان تجذّر في هذه الأرض

لعلكم تذكرون مشهد قتل أربعة من أطفال عائلة بكر، بينما كانوا يلهون على شاطئ بحر غزة في 16 تموز/ يوليو 2014. ذاك المشهد المروع لا يزال حاضرًا في ذهن الطفل منتصر عاهد بكر (14 عامًا)، يسيطر عليه طيلة الوقت.

اقرأ/ي أيضًا: صور: هكذا بدت القدس في ذكرى احتلالها..

تلعثم الطفل منتصر حين روى تفاصيل الجريمة التي اقترفتها إسرائيل بحق شقيقه وثلاثة من أبناء عمومته، في مساء ذلك اليوم حينما كانوا يمررون الكرة بين أقدامهم على رمال الشاطئ بعيدًا عن ضوضاء الحرب. يقول: "في لحظة ما قفزت "الطابة" إلى أعلى سطح حجرة مطلة على البحر، ما اضطر ابن عمي للقفز حتى يجلبها، فاستهدفته وقتها الطائرات بصاروخ واحد".

لحظتها، هرب الأطفال الخمسة تاركين سادسهم شهيدًا، يشير منتصر بيدين مرتجفتين وصوت يخفت تارةً ويعلو أخرى، إلى أنهم حاولوا الاستنجاد بأحد أصحاب المقاهي وقتها، لكنّ جل ما فعله الرجل هو الاتصال بالإسعاف، من دون قدرة على إنقاذ الطفل الذي صار أشلاءً.

يصمت منتصر القاطن على أطراف مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، برهةً، ويكمل: "عدنا مجددًا لإخراج الجثة، فقامت الطائرات بقصف صاروخ آخر استهدف أخي عاهد، ومن ثم أطلقت صاروخًا ثالثًا استهدف اثنين آخرين من أبناء عمومتي، وأصبت أنا بشظايا في أنحاء متفرقة من جسدي، وغبت تمامًا عن الوعي".

اقرأ/ي أيضًا: فيديو | "رحلة الموت" وخبز مُغمّس بالذُل

منتصر لم يكن يعي وقتها ما حدث، حيث استفاق في قسم العناية المكثفة بعد نحو 24 ساعةً، ليتساءل: "أين أخي عاهد؟". قدرة الطفل على استيعاب المشهد مسألة في غاية التعقيد، لاسيما أنه صمت عجزًا عن وصف شعوره حتى هذه اللحظة وكأن شيء من البلادة قد أصابه، فضلًا عن أنه عاجز عن حصي الشظايا التي مزّقته واستقرت في أنحاء متفرقة من جسده إلى الآن.

يقول جدّه عاهد بكر في العقد الخامس: "من حق هذا الطفل أن يتعالج وأن يتخلص من هذه اللعنة التي استقرّت في جسده، كما من حقّه أن يتعالج من واقع الصدمة النفسية التي يعانيها منذ ثلاث سنوات".

يرفض منتصر الانضباط في المدرسة بدعوى أن أخيه عاهد لم يعد حيًا يرافقه في ذات المقعد، ويقضي جل وقته وحيدًا في المنزل

أمّا الخمسيني أبو حسن الوحيدي القاطن في قرية المغراقة وسط قطاع غزة، تتملكه تفاصيل معايشة الموت على الرغم من مرور ثلاث سنوات على ذكريات النجاة من دائرة النار.

يقول الوحيدي إنه تفاجأ خلال اليوم الثلاثين للحرب التي استمرت 51 يومًا، بسقوط عشرات القذائف الصاروخية في محيط سكنه في ساعات الصباح. اضطر لحظتها إلى الاحتماء مع أفراد أسرته المكونة من أكثر من 15 فردًا أسفل سُلّم منزله المكون من طابقين.

ترتجف يد الرجل قليلًا وهو يستحضر مشهد القصف، قائلًا: "عندما بدأ القصف احتمينا تحت الأدراج، كنا ننطق الشهادة عشرات المرات، لظننا أنه لن ينجو منّا أحد، ذلك نتيجة هول القصف وتصاعد الدخان من كل مكان حولنا.. الصراخ كان سائدًا".

عشرة أمتار تقريبًا كانت تفصل منزل الوحيدي عن منزل والده وآخويه الآخرين وأبناءهم. يشير إلى أنه بعد انقشاع الدخان بعد نحو ساعتين، ساد هدوء شديد في المكان، حاول أن يرقب المشهد تلصصًا لإدراكه حقيقة استهداف كل متحرك على الأرض. الهدوء المريب وقتها أوقعه في الشك بأن أبيه وأخويه قد ارتقوا شهداء.   

اقرأ/ي أيضًا: مكالمة فائتة من البلاد!

الوحيدي الذي كان يعمل في إحدى المؤسسات الدولية حينها، استهلك بطارية هاتفه المحمول حتى آخر رمق في إجراء اتصالات المناشدة لإنقاذ حياته وأسرته، من دون جدوى، كما قال. وأوضح أنه لم يكن أمامه من خيار غير البقاء متمركزًا هو وأفراد الأسرة تحت السلم ومواصلة الدعاء بأن ينجيهم الله من الموت.

مجددًا باغتت الصواريخ بنايات القرية ذات الطرق الزراعية، يقول الوحيدي إنه حمل طفلته التي لم تبلغ الشهرين وقتها، وأقسم على الله أن ينجيهم من الموت لأجلها. يقول "كنت أهذي من دون وعي، قلت أقسم عليك يا الله بحق هذه الطفلة أن تنجينا".

يذكر الرجل أنه بعد مرور أكثر من سبع ساعات تمكن فريق الصليب الأحمر الدولي من إخراج من تبقى من الأحياء خارج دائرة النار. عن تلك اللحظة يقول: "كنا شبه غائبين عن الوعي، يتفقد بعضنا بعضًا؛ إذا ما كنا قد أصبنا أم لا (..) البناية من الخارج بدت كغربال بفعل القذائف المسمارية المستخدمة، لكن قدرة الله حالت دون أن يصاب أي منا بأذى".

يقول سارعت فور خروجنا من المنزل، للتأكد من سلامة أبي وأشقائي في المنزل المجاور، فوجدتهم محتمين على ذات الهيئة التي كنا عليها أسفل السلم، فاحتضنتهم باكيًا، وحمدنا الله أنّه لم نفقد أي منّا، أو يصاب أحد بمكروه".

اقرأ/ي أيضًا: لا صلاة في 7 كنائس.. ألغام الاحتلال وراء ذلك!

الحالة ذاتها عايشتها أسرة أبو محمد أبو القمبز (55 عامًا)، التي اضطرت في اليوم التالي للنزوح من حيّ الشجاعية عقب وقوع المجهزة الشهيرة في 20 تنوز/ يوليو، وارتقى خلالها 74 شهيدًا، لاستجداء كافة الأطراف ذات العلاقة بالعمل الإنساني من أجل البحث عن الرجل الذي لم يبرح سكنه وقت النزوح.

أبو محمد صاحب الرأس الملبد بالشيب، أوضح أنه بعدما اطمأن لبلوغ أسرته المكونة من 12 فردًا، إلى مأوى وكالة الغوث غرب مدينة غزة، اضطر للنزول أسفل البناية التي تبتعد عشرات الأمتار عن المنطقة الفاصلة مع الاحتلال شرق مدينة غزة.

ولفت أبو محمد إلى أنّ السبل انقطعت به، ولم يعد يتوفر لديه أي فرصة للتواصل مع العالم الخارجي، وقضى أسبوعا كاملًا يقتات على الأطعمة البسيطة المتوفرة. وعلى الرغم من أن الكهرباء كانت مقطوعة بشكل كامل عن الحيّ الذي يقطنه الرجل، إلا أنه كان يضطر التسلل عبر الأدراج إلى السقف العلوي حتى يتمكن من جلب الطعام وأقراص الدواء، خصوصًا أن الردارات كانت تترصد كل متحرك في المكان.

 من أسوأ الذكريات التي يمكن أن يرويها الإنسان، هي معايشته للموت. وحدهم الناجون من يعي معنى "بلغت القلوب الحناجر" 

في المقابل، كان قلب أم محمد التي أقامت مع أبنائها في مأوى يتبع الوكالة الدولية (الأونروا) يعتصر ألمًا خوفًا على حياة زوجها الذي ظنّته ارتقى شهيدًا.

تقول السيدة وهي في أواخر عقدها الرابع، إنه لم يكن لديها أي أمل ببقاء زوجها على قيد الحياة. وإن ما حصل معه قد كان بمثابة "معجزة"، لأن كل شيء في المكان قد جاء عليه الدمار، بما في ذلك بنايتهم.

وتضيف مستحضرة المشهد الذي دعاها للخروج هرعًا مع إعلان الهدنة، لتفقد زوجها الذي خلفته في المسكن: "كنت أشعر بانقباض شديد في قلبي حينما دخلت المنزل، فوجدت أبو محمد مستلقٍ على ظهره أسفل السلم.. تلك لحظة لا يمكنني نسيانها لطالما حييت".


اقرأ/ي أيضًا:

فيديو | كيف تلقت إسرائيل إخفاق جيشها في حرب غزة؟

كيف أصبحت أيّامنا بعد حزيران كُلّها حزيران؟

نتنياهو: قرار خوض الحرب سيكون لي