16-مايو-2018

صورة لمسن بعد النكبة - (gettyimages)

"كأنما أراه أمامي الآن، رفع غطاء باب الخيمة ودخل يجر قدميه كمن يسير نحو حتفه، كان يحمل بين يديه صندوقًا من الكرتون شقّت غطاءه قنينةً من زيت الذرة، وقف قبالتنا وبدأ يحدّقُ في تفاصيل المكان. كانت زوجته - جدّتي أم الحسن - تكيل الأرز في وعاء الطبخ، أما أنا - وكان عمري حينذاك 14 عامًا - فهرولت نحوه أتناول من بين يديه الحِمْل، لكنني توقفت مكاني بعد أن نكزني بنظرة. 

بكامل القوة التي منحه الله إياها رفع جدّي الصندوق نحو الأعلى ثم ألقاه أرضًا، فتدحرجت منه علب السردين ورُب البندورة وتناثر العدس. بدأ يشهق ويزفر تباعًا محاولاً أن يكتم صرخةً أؤمن بأن ثقل القهر فيها كان يمكن أن يهزّ جبل الجرمق. جلس أرضًا ووضع رأسه بين يديه، تنفّس بصعوبة، والتفت ناحية جدتي التي كانت تقرفص وتُحرّكُ الطعام فوق الحطب المشتعل؛ حين قالت بصوتها اللا مبالي: وكّلها لله يا أبو حسن، مثلنا مثل هالناس".

مختار قرية حمامة المهجّرة مات كمدًا على سجّادة الصلاة بعد أن وقف في طابور المعونات في مخيم الشوّا

"لم أسمع صوت جدي في ذلك اليوم"، يقول حمزة حسونة (85 عامًا) وهو يحاول أن يستدرج من داخل خزينة الذاكرة كيف تُوفّي جده، أبو الحسن انشاصي مختار بلدة حمامة - إلى الشمال الشرقي من مدينة غزة - على سجادة الصلاة، بعد أربعة أشهر من تاريخ النكبة، عندما عاد من طابور استلام المساعدات يحمل في يده الطعام ويداري عن وجهه صفعة الذل أمام لقمة عياله، وهو الذي كان قبل وقتٍ قصير يولم بالذبائح أنواعًا لضيوف قريته.

سجدَ ولم يقُم!

حدث ذلك في آخر أيام تشرين ثاني/نوفمبر لعام 1948، حيث استيقظ المختار أبو الحسن وارتدى قمبازه والكوفية بعد أن سمع من رجلٍ في الخيمة المجاورة أن هيئة الأمم المتحدة لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين - وكانت قد أُسست قبل أيام فقط من هذه الحادثة - توزّع الطرود الغذائية لأول مرةٍ على أهالي مخيم الشوا - أول مخيم أقيم في قطاع غزة في عام النكبة - ولم يعُد إلا بعد أذان الظهر.

يقول حفيده: "بعد أن جمعتُ الأغراض التي تناثرت من صندوق المساعدات على يد جدّي الغاضب، سمعتُه يبكي! نعم كان المختار يبكي حقًا بعد أن كبّر وانتهى من ترتيل الفاتحة الأولى، ثم سجد.. لكنه لم يقُم". لما أطال السجود اقتربت منه أم الحسن باكية وقد وصلتها الإشارة، لقد مات المختار كمدًا. يؤكد الحفيد حمزة بأن جدّته بكت عليه حتى فقدت بصرها.

دعونا نعود قليلاً إلى أيام المختار الانشاصي في ديوانه بقرية حمامة. كان لديه أكثر من 100 دونم مزروعةٍ بالتين والعنب والحمضيات كافة، ناهيك عن المواشي التي كان يربيها للبيع؛ ولقوت أهله وضيوفه، وكان متكفلاً بأجور 10 عمال يقلبون له الأرض هناك ويسوّقون الخضار في يافا، وهؤلاء غير عمّال "المطامير" الأرضية الضخمة التي كان يحفظ فيها القمح لأطول مدةٍ ممكنة.

بيته كان من أكبر بيوت البلدة، فيه - حسب ما يذكر حفيده حمزة - ثلاثة مجالس أرضية كبيرة لاستقبال الرجال الذين كانوا يتشاورون بمشاكل الأهليّة هناك، ويستقبل فيها ضيوف البلدة من القرى المجاورة "متكفلاً بطعامهم وشرابهم وملبوسهم" طوال فترة مكوثهم عنده.

حضر حفيد المختار الراحل في حمامة أكثر من عزاء، فكان أهل القرية يستأجرون حانوتيًا يسير في بداية ركب الجنازة رافعًا الأعلام الحمراء والخضراء، ومناديًا باسم الميت، مع الدعاء له بالرحمة والمغفرة، ومن خلفه أهل القرية كلهم مهما بلغت درجة غنى الميت أو فقره، يرددون ما يقوله حتى يغلقون عليه قبره.

في عزاء المختار لم يحدث هذا. 10 رجال من جيران الخيمة - ومعظمهم ليسوا من حمامة أصلاً - حملوه إلى مثواه الأخير، فيما جلس أبناؤه على باب الخيمة بعد الدفن وحدهم، يردّون السلام ويقولون عن الباب: "شكر الله سعيكم".

ذهب إلى حيث لا يعرفه أحد

أما الحاجة مريم النواجحة، من مواليد عام 1927 في قرية البطاني الغربي - شمال شرق مدينة غزة - فتروي ما حدث مع عمها المختار عبد القادر عمارة "النواجحة"، وهي آخر من تبقى على قيد الحياة من شهود تلك المرحلة من أبنائه وأبناء إخوته أيضًا. تقول: "كان عمي راجل ملوي هدومه، وأولاده كلهم تعلموا القراءة والكتابة ودرسوا اللغات، وهذا جعل أهل القرية ينظرون إليهم تلقائيًا نظرة تفضيلٍ عن باقي أهل القرية".

كانت دار المختار عبد القادر - وعمره حين وقعت النكبة 70 عامًا - مبنية من الباطون؛ وليس من طوب الطين  كما هي باقي بيوت القرية، كما كانت الوحيدة التي رُصّت أرضيتها بمربعات البلاط، وفُرِشت بالسجاد باهظ الثمن، فيما صُنعت في بعض الغرف داخلها المصاطب الطينية المجبولة بماء القرنفل، لتكون أرائك مفروشة بالبسط الملونة يُستقبل عليها الضيوف.

كان يملك مطاميرًا عميقة لحفظ القمح والسمسم، ويبيع محاصيل دونماته التي تقدر بالمئات على عربة "كارو" خاصة به في يافا، ويتولى ذلك عشرات العمال الذين كانوا يعملون تحت إمرته. "كان غنيًا والغنى لله (..) وكان يملك كما أذكر مضخة ماء تسقي زرعه! وهذا ما جعله صاحب الأمر والنهي في القرية كلها" قالت مريم.

في أول أيام التخييم، تحديدًا في مخيم الشوا حيث قضى المختار الانشاصي، سمع المختار عبد القادر صوت عراكٍ صادرٍ من ناحية طابور المساعدات الذي كان يصطف فيه ابنه ليستلم حصة العائلة من الطحين والأرز وبعض المعلبات التي كانت تقدمها هيئة الأمم المتحدة لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين، قبل تأسيس "الأنروا".

نظرَ عبد القادر ناحية الصوت فإذا بابنه يشد ياقة قميص رجلٍ كان من عمّال المختار في أرض البطاني الغربي يومًا. حسب الحاجة مريم، فإن ابن عمها المتعلم، كان متضايقًا من التصاق المصطفين في نفس الطابور به من خلفه ومن أمامه، فشعر بالحر، وبدأ يدفع الذي أمامه وكان يعرف أنه من عُمّال أبيه، فإذا بالأخير ينفجر في وجهه، حتى دار بينهما الحوار التالي على مسامع المختار..

  • بيكفي لازق فيني هيك يا عمي إبعد شوية
  • تزقش يا متعلم يا محترم.. هسا بورجيك
  • نعم.. إيش بدك تورجيني؟ إنت مش عارف ولك أنا ابن مين؟
  • لأ مش عارف ذكّرني؟
  • ولك أنا ابن المختار..
  • سلّملي عالمختار! هو ضل فيها مختار؟!.. إنت مش شايف حالك وين واقف؟ أنا وإنت يا ابن المختار بنستنى رغيف الخبز هان.

تقول مريم: "خرج ابن المختار من الطابور يدفع بيديه جحافل اللاجئين الذين تجمهروا حوله يفكّون الرجل من بين يديه، ثم دخل الخيمة، ولم يظهر من عائلته أحد يومها حتى جنّ الليل".

في صبيحة اليوم التالي، وجدوا خيمة المختار فارغة! "لقد رحل عمي عبد القادر لا يدري أحد إلى أين، وبعد أكثر من عام عرفنا أنه يعيش في ضيافة أناسٍ جنوب قطاع غزة كان له عندهم دينٌ قديم، لاقوه صدفة بينما كان في طريقه إلى حيث لا يعرفه أحد، يعافر حياةً جديدة لم يعد للقمباز فيها أو للدمّاية أو حتى للعكاز الرفيع الذي يحمله أي ستين لازمة" قالت مريم.

مختار قرية البطاني المهجّرة رحل من مخيّم الشوّا إلى حيث لا يعرفه أحد، بعد شجار بين أحد عمّاله ونجله في طابور الإغاثة

وأضافت بعد أن شردت بذهنها إلى حيث وجع عمها هناك: "والله يا بنتي كنت واعية، 20 سنة متذكرة كل شي كأنه صار اليوم، كان وجه عمي بيقطر وجع وقهر، لكن المفاجأة أن عمي ضل بعد ما استقر بالجنوب مختار البطاني حتى مات".

الملكة..

انشراح سرور (84 عامًا) حفيدة حسين عايش - أحد الثوار الأوائل في الثورة العربية الكبرى ضد العثمانيين بمدينة المجدل قبل أن يُنفى إلى تركيا - تحدثت عن أيام المخيم الأولى، حين لم تتوقف أمها دلّول حسين عايش عن البكاء أمام النواقص التي فرضتها الهجرة: قلة الطعام، الملبوس، المال، وحتى أمام انقطاع ذكريات جلسات السمر في المجدل.

تقول: "أمي كانت اسمًا على مسمى، ابنة خير، إخوتها قضاة ومحامون وتجار، وكانت نساء المجدل تلقبنها بـالملكة، لجمالها الأخّاذ وكثرة ملابسها وجمال ألوانها، ولأنها كانت متعلمة. وهذا كان قليلاً ما يتوفر في امرأة في تلك الأيام (..) كانت لا تتمنى شيئًا إلا ويحضر قبل أن تطلبه".

تزوجت دلول من والد انشراح - ويدعى محمد - في المجدل شمال شرقي غزة، قبل تاريخ النكبة بعشرين عامًا تقريبًا. كان محمد من كبار القوم في المجدل، له 300 دونم مزروعة بالعنب والتين والتفاح والقمح والشعير والزيتون ما بين المجدل وحمامة، وكان صاحب أكبر مصانع "البُسُط" هناك.

تقول: "كان لأبي في مصنعه 15 نولاً يقوم عليهم ثلاثون عاملاً، عدا عن عمال الأراضي. وكانت أمي تسير في المدينة يا أرض اشتدي مين عليكي قدي. كان تطلبها النساء للزواج من القرى المجاورة - دون أن يعلموا أنها متزوجة - لشدة تألقها وترتيبها".

كان صعبًا جدًا أن يتغير الحال وقت هاجرت دلول إلى حد أن تجد نفسها فجأة تغسل بماءٍ غير نظيفة، أو تأكل ما تجود عليها وعلى عائلتها به هيئة الإغاثة. كانت تمشي بملابسها الرثة التي هاجرت بها بين الخيم كالريح حتى لا يراها أحد.

تتابع انشراح، "أبي تمكّن من اجتياز الواقع والتأقلم معه في وقتٍ قريب، حتى أنه بدأ بتأسيس عملٍ بسيط له في غزة كبائع للقمح، لكنني لا أذكر أن أمي مر عليها فيه يومٌ لم تبكِ فيه حسرةً على أيام العز هناك".

كانت دلول تطبخ لأبنائها الطعام من أرز المساعدات أو العدس، وغالبًا تقضي وقت تناوله تداري دموعها، وتتمتم بكلمات النقمة على "اليهود" الذين أوصلوها لمثل هذا الحال. لم تسمح عزة نفس دلول لها أن تطلب من جيرانها في الخيمة بصَلَة في يومٍ من الأيام، بينما بقيت حتى لحظة موتها تتباهى بـ"أيام العز" هناك، عندما كانت "ملكة".