24-نوفمبر-2018

كُنّا صغارًا حين هبطت طائرة "أبو عمار" في المقاطعة. لم نكن نعرف عن رئيسنا شيئًا سوى أنه لا يرتدي بِدلاً أنيقة وربطات عنقٍ ملونة مثل باقي الرؤساء. كُنّا نتساءل كم زيًّا زيتيًا لديه من هذا الذي يرتديه؟ بل وذهب البعض منّا إلى أنه لا يملك إلا زيًّا واحدًا وأنّه لا يُبدّله! كان لبعض الأطفال الأكبر منّا طريقتهم الخاصة في تحليل ملابسه، فتحوّل الموضوع إلى مديح للرجل وتشبيه زهده في الملابس بزهد عمر بن الخطاب الذي كان لا يملك وفقًا لما قالوه لنا، إلا ثوبان واحدٌ للشتاء وآخر للصيف. المهم أن الرجل جاء ولم نكن نعرف كأطفال أن الرجل ذو البدلة الزيتية جاء ومعه كيسًا كبيرًا من التحوّلات.

   لم نشعر أننا محاطون بمساحة كافية من الآمان لنقول رأينا دون أن نبدو أقل   

كنت أفكر دائمًا كيف أختبئ من فكرة أنني غير معجبة بشيء يُعجب أصدقائي، أنني مثلًل لا أبالي باللون الزهري كثيرًا، وأنني أميل إلى الأبيض أكثر. كانت مواجهة أصدقائي بكرهي لما يحبون غير ورادةٍ أبدًا، طفلةٌ خجولةٌ ليس لديها الكثير من الشجاعة لتقول لا، ولكن لديها الكثير من الغضب وراء ابتسامتها المُجاملة لأصدقائها عندما يقولون ما لا يعجبها، ويدفعها جُبنها إلى الابتسام على مضض. وعن الغضب الداخلي هذا فقد كان عنيفًا، وكأنّ أحدًا أجبرني على شيء! في الحقيقة كان ذلك خيارًا شخصيًا، لم يجبرني أحدٌ على تصنع الابتسامات أو الحب أو الصمت. لم يفعل ذلك أحد، أنا فعلت ذلك بنفسي.

كتبت صديقة كيف أنّ ذوقها في الرجال تغيّر بعد أن عاشت في أمريكا، وأن إعجابها القديم بالرجال الذين يسردون حنينهم لبلاد لم يزوروها شعرًا ونثرًا، تلاشى أمام رجال بملابس رياضية وأحذية تسلّق يجيدون التعامل مع الخرائط والجبال. كان هذا دقيقًا بما يكفي ليداوي ذكريات طفولتي الخجولة في تصنُّع الحب والتزام الصمت ومداواة اختلاف الرأي بالابتسامات المبنية على مضض.

    لم أكرههم ولكنني كرهت حبّ الناس غير المشروط لهم، أزعجني التقديس لخطاباتهم المتناقضة مع أفعالهم على أرض الواقع   

من دون أن أسرد المزيد من ذكريات طفولتي المليئة بالكلمات التي ظننت أن عليّ أن أرددها عن الحب حتى أستعجل دور الصبية وعن البلاد حتى أبدو أكثر وطنية. ومن دون أن ألتفت كثيرًا إلى الوراء حيث أرى طفلة تشعر بوجوب الانبهار بشخصيات سياسية لمجرّد أن جميع من حولها منبهرون بهم بوصف هذا جزءًا من فلسطينيتها. طفلة تخاف أن تعجبها صور أشجارٍ داكنة الخضرة في أوروبا فيكون ذلك الإعجاب انتقاصًا من حبّها لزيتون بلادها. كلّما نظرت إلى الوراء رأيت طفلة تهم بالحديث ولكنها تسكت خوفًا من أن يكتشف أصدقاؤها أنّها غيّرت رأيها عمّا قالته سابقًا، رأيها الذي لا تعرف كيف تشكّل ولكنّها تخاف أن تُغيره، تعلّمت منها أن هناك فضيلة تسمى "فضيلة التراجع" وأن التراجع عن الشيء ربما يكون شكلًا حقيقيًا للبحث عنه من جديد.

في جهة ما من أجسادنا، وخلف ابتساماتنا المستسلمة بحكم التكرار والمألوف، خلف الاعتياد أو الخوف وخلف ترديد ما نظنُّ أنّ علينا ترديده لنبدو أذكى أو أجمل أو أكثر وطنية، هناك غضب ينمو، جاهزٌ ليتحوّل إلى هجوم عنيف وجاهل على كل ما تظاهرنا بحبّه يومًا ما، لأننا لم نشعر أننا محاطون بمساحة كافية من الآمان لنقول رأينا دون أن نبدو أقل.

عرفات وغيره من السياسيين والشعراء و"أبطال" التاريخ لم أكرههم ولكنني كرهت حبّ الناس غير المشروط لهم، أزعجني التقديس لخطاباتهم المتناقضة مع أفعالهم على أرض الواقع، أمّا الهتافات المليئة بالحب التي أجبر الكثيرون أنفسهم على الانضمام لها هربًا من الإقصاء أو الانتقاص، فإنّها حتمًا ستخلق الكثير من الكراهية فيما بعد.  


اقرأ/ي أيضًا: 

هل الحب مخيفٌ أكثر من الكراهية؟
الحب كموقفٍ سياسيّ
هذا الحب لاجئٌ من يافا