13-مايو-2018

قبل أسابيع من الآن، قرأت تقريرًا يُشير إلى أنّ عدد القتلى المتوقّع سقوطهم في مسيرة العودة الكبرى منتصف أيار/ مايو الجاري، يكادُ يكون مِئة قتيلٍ بحسبِ الوصفِ الإسرائيلي؛ أيّ مِئة شهيد. ولا أزالُ مذّاك حتّى الآن، في الأحاديث الجانبية وفي حوارات مع الأصدقاء، أردّدُ هذه الأرقام على مسامعهم ومسمعي، كأنّي بذلك أتّقي شرّ الموت أو صدمته، حيثُ هناك عواملُ كثيرة تؤثِّر على جعلِ هذا الرّقم بالنسبة لي، رقمًا وحسب.

  لعلّ ماركيز في جنّته اللاتينيّة لم يتصوّر أن الواقعيّة السحريّة ستمتدُّ لتطال الواقع اليوميّ المعاشْ، حتّى تصبح قصّة معلنة يوميّة لمئاتِ آلاف العرب من حلب وغزة واليمن  

غزة بعيدةٌ جدًا عن رام الله، بعيدة جدًا بحيثُ لا أستطيع إلَّا أن أراها مقبرةً للغزاة تارةً ومقبرة لأبنائها تارةً أخرى، ولا أستطيعُ الفُكاك من لعنة التكنولوجيا، إذ استطاعت أن تمحو رائحة الأرض، أو رائحة اختلاطِ ملح البحر بالرّمل بالعرق النّازل من أقدامٍ صغيرة أو كبيرةٍ، تلعبُ أو تركضُ فوق رملِ البحر.. هذا كلُّه غاص في ضباب الصُّورة الإلكترونيّة، هذا كلُّه ليس سوى كلمات، لا أستطيعُ تجسيدها إلى صورة حيّة وحقيقيّة. وهناك الأرقام المتلاحقة، هناك التقديرات الإسرائيليّة التي تُسرَّبُ لنا ولمن يهمُّه الأمر فيما يتعلَّق بالضحايا المُعلن قتلهم مسبقًا، الأرقام المتوالية، المتسارعة، المتضاربة؛ مئة قتيل، ربّما لن يعدو الأمر عن خمسين قتيلًا، قد يسقطُ العشرات، وفي وسط هذه الأرقام، أحاولُ أن أسمّي الأمر بالـ"مجزرة"، ستكونُ مجزرة، حتى أُصاعد من نبرتي في وجه أذنيّ أنا شخصيًا وأذنيّ المستمع، لكنّي أراه جامد القسمات والملامح، لا تُحرّكُ به أو فيَّ شيئًا كلمة المجزرة هذه. أخبرهُ وأخبرُني، عن قصّة قتلٍ معلنٍ للعشرات من الأجسادِ التي تحيا حياتها الآن في سلامٍ نسبيّ، في هدوء نسبيّ، إلَّا أنّ شيئًا لا يكادُ يحرّكُ فينا شيئًا من مشاعر.

قصّة قتلٍ معلنٍ إذن، كانت وستكون. لم يسبق من قبل أن عرف الفلسطينيّ ساعة موته، تشبهُ القصّة هذه على مستوى أعظمٍ منها، قصص القتل المعلنة الكثيرة في سوريا منذ سبع سنوات. لطالما قرأنا التقارير التي تسبقُ دخول الجيش الروسيّ والسوريّ والميليشيّات الطائفيّة إلى مدينة المدن. تقاريرُ تحذّر من كارثة إنسانيّة، وأخرى تحذّر من مجزرة دمويّة قد تقع، وتقارير تحذّرُ من تصاعد حدّة القتل في الأيّام القادمة، وتقارير تحذّر من مغبّة استخدام الكيماويّ الذي يُستخدمُ فور صدور التقارير. الإعلامُ آلَة مدمّرة، آلة خبيثة وماكرة، تسبقُ القتل وتحذّرُ منه وتجعلهُ عاديًا، ويتجاوزُ الأمر مجرّد مفهومٍ صاغته حنّا آرندت بوصفها هذا النوع من القتل العاديّ بـ"تفاهة الشّر"، ليكون عاديّة الشرّ، ولكن بجعله عاديًّا، بجعله مُعلنًا، بجعله متوقَّعًا وعاديًا في آن.

الشرّ في عاديّته؛ رُوحُ قصص القتل المعلَنة الكثيرة والدّم المسفوك المُحذَّرُ من سفكِهِ مسبقًا لكَأنّ التحذير في روحه الأولى إيذانٌ بالقَتلِ وتخفيفٌ لحدّة الخبر التالي: مقتلُ مئة سوريّ في مجزرةٍ في مدينة سوريّة، مقتلُ مئة فلسطينيّ على الحدود، سُقوط العشرات في غارةٍ إسرائيليّة، سقوطُ العشراتِ في سوقٍ شعبيّ في دمشق. لتكون ردّة الفعلُ الأولى والدائمة ليس الانفعال الخالِص الممزوج بمشاعر العارِ والسقوط الأخلاقيّ اليوميّ، بل هو التساؤلُ عمّا يلي، عن الخبر التالي: إذن ماذا، هل تكون مجزرة مقابلة؟ هل تكون حرب؟ والقتلى آنذاك، تراجع خبرهم، تراجع في أهميّته وعُجالَته، ليُفسحُوا مجالًا للمحللين الإعلاميين الذين يجعلون من موت عشرات آخرين، قصّة قتلٍ معلنةٍ أخرى.

لم أختر الكتابة قبل وقوع المجزرة، بل اخترقت ذهنيَ الاستعارةُ المريضة بالواقع: "قصّة قتلٍ معلن.."، لعلّ ماركيز في جنّته اللاتينيّة وفي واقعيّته السحريّة لم يتصوّر من قبل أن الواقعيّة السحريّة ستمتدُّ لتطالَ الواقع اليوميّ المعاشْ، حتّى تصبح قصّة موته المعلنة لعربيٍّ في إحدى مدن السحر الواقعيّ اللاتينيّة، إلى قصّة قتلٍ معلنة يوميّة لمئاتِ آلافِ العربِ من حلبٍ وحتّى غزّة وحتّى اليمن وبلاد أخرى. هنا تصبحُ الاستعارة لعنة حقيقيّة، إذ هي الأخرى، تجعلُ من قصّة القتل المعلنةِ، استعارة أدبيّة، تؤكّد الواقع وتنفيه، وتخفِّفُ من وحشيّة المشهد الواقعيّ إلى جماليّة لغويّة وحشيّة. لعلّ اللعنة مضاعفة إذن، فهي لعنة التكنولوجيا وأرقامها، ولعنة اللغة ودهاليزها، هكذا تبقى الاستعارة المريضة ويبقى عالمُنا السّاقطُ "عالمًا يطفو على القتلى كعادته.


اقرأ/ي أيضًا:

العربيّ عند ماركيز.. مقيم ومقاوم

غابرييل غارسيا ماركيز.. يوم كان جزائريًا

حلب... أوسع من موت معلن