23-سبتمبر-2019

محمود وفاطمة يقولان "أحبك" بلغة الإشارة

"يُطَمئِنُنِي الآن يا شريكي، أنك ستعتادُ، سأعتادُ، وسنعتادُ على التجاوز، لن أتواني لحظةً في أن أكون سمعك الذي فَقَدْت، الكف الحانية والحظ الجميل في حياتك، سأكون كتفًا لرأسك المثقل بالحكايا التي لا يعرفها أحد، وصوتَك الذي أسمعُهُ يغمر روحي كلما ضَمَمْتَ قبضة يدكَ ورفعتَ خِنصركَ والسبابة، وألحقَتْهُما بالإبهام لتقول لي: أحبُك".

فاطمة الزهراء تعي جيدًا أن خطيبها الأصم محمود أبو ناموس لن يتمكن من قراءة ما كتَبَتْهُ له هنا، لكنها على يقينٍ بأنه أضحى مطمئِنًا لكونها لن تُفْلِتَ يده بعد اليومِ أبدًا

صغيرٌ هو جيبُ الحبِّ على الرسائل التي لا تصِل، فاطمة الزهراء ضاهر تعي جيدًا أن خطيبها الأصم محمود أبو ناموس لن يتمكن من قراءة ما كتَبَتْهُ له هنا، لكنها على يقينٍ بأنه أضحى مطمئِنًا لكونها لن تُفْلِتَ يده بعد اليومِ أبدًا.

اقرأ/ي ايضًا: عريس وعروس من ذوي الإعاقة.. غير ممكن في غزة

هي قصة خاتمٍ يخفي في بطنه اسم محمود، ارتدته في بنصرِها فاطمة ولم تلتفت لأي صوتٍ أو نظرة استهجان: "ما الذي ينقصك يا فاطمة كي تتزوجي الأصم؟" كانت تردُّ: "هو الله رتّب اللقيا بعدَ بُعدٍ وربط القلوب بحبل الرضا".

في اليوم العالمي للغة الإشارة الذي يوافق تاريخ 23 أيلول/سبتمبر من كل عام، يحكي الاثنان لـ الترا فلسطين حكاية "الكيمياء" التي جمعتهما على طريقٍ واحد دون أن يسمع أحدهما كلمة "حبٍ" واحدةٍ بصوت الآخر.

فاطمة تكتب الرسائل التي لا يقرأها محمود، ومحمود يثق بوعدها له حين أخبرته بأنها ستعلِّمُهُ حروف الناطقين يومًا ليقرأ رسائلها كلها دفعةً واحدة. تلك النصوص "المُطَمْئِنة" التي تعترفُ فيها بأنها كبُرت على عُمر الـ"لا"، وقرّرَت أنها لن تختبئ أبدًا خلف طيف "صمته"، ولن يحمرَّ وجهُها ثانيةً إذا ما لمَزَهُما بائعٌ في الطريق بشهقة التعجب وتمتمات الدعاء: "معاق!! الله يعينك يختي".

سيأتي اليوم الذي يقرأ فيه محمود نصها الذي اعتلت فيه المنبر وكتبَت فيه عنه وله، وتحدثت عن "إعاقته" وضحِكت عندما تذكّرت أن ضجيج الحياة الصاخبِ في قلبه أعلى بكثيرٍ من أي صوتٍ أو كلمة ستشتهي سماعها منه يومًا، اليوم ترفع فاطمة قبضة يدها عاليًا بالخنصر والسبابة والإبهام لتقول بلغة الإشارة لمحمود: "أنا أحبك".

"أحبك" بلغة الإشارة يُعبر عنها محمود بيده

قبل خمس سنوات

خمسُ سنواتٍ مرّت مذ التقت عينا فاطمة بعينَي محمود لأول مرة، كانا ضيفين على إحدى فعاليات الجامعة الإسلامية بغزة، هوَ كمدربٍ للغة الإشارة و"سوشلجي" بات يعرفه الصمُّ والسامعون على حدٍ سواء، وهيَ كمرافقةٍ لأختها الصغرى هبة التي كانت تلقي الشعر على مسامع الحاضرين آنذاك.

خمسُ سنواتٍ مرّت مذ التقت عينا فاطمة بعينَي محمود لأول مرة، هوَ كمدربٍ للغة الإشارة و"سوشلجي" بات يعرفه الصمُّ والسامعون على حدٍ سواء، وهي كمرافقة لأختها هبة

"ما زلت أذكر تلك الرجفة التي سرت في جسدي عندما اقتربتُ لمخاطبتِه أول مرةٍ فاكتشفت بأنه أصم. كانت عيناه تلمعان وتفاصيل وجهه توصل كل ما يودّ قوله دون أن ينطق بكلمة، تمكّنتُ من فهم ما قاله عن إلقاء أختي دون الحاجة إلى مترجم: لقد قرأتُ لغة جسدها بتمعُّن، إنها رائعة" تقول فاطمة.

اقرأ/ي أيضًا: العريس "سليم" والعروس "ذات إعاقة".. معقول؟

لا تدري فاطمة كيف، أو حتى لماذا طلبت منه في ذلك اليوم أن يُلحقها بإحدى صفوف تعليم لغة الإشارة التي يقومُ عليها، لينفرط عِقدُ الأحداث وتبدأ الحكاية.

في أول يومٍ حضرت فيه فاطمة الدرس، وبينما هي تبحث عن طريق الخروج في متاهة اللغة الجديدة تلك، وجدت محمود يؤشّر لها بيديه وهي تهمُّ بالمغادرة، ففهمت أنه يسألها عن ما إذا كانت مرتبطة، أو بالأحرى إذا ما كان أهلُها يوافقون على ارتباطها بشخصٍ من ذوي الإعاقة السمعية.

تصف فاطمة ردة فعلها قائلة: "ارتبكتُ وتصبب جبيني عرقًا، ردّت: مستحيل، الحياة ستكون صعبة، وأهلي لن يوافقوا".

محمود الذي درسَ في مدارس خاصة بالصم، وتعلم لغة الإشارة كلغةٍ أساسية وبالكاد يستطيع أن يفهم من حروف العربية جملًة كاملة، كان يرى في نفسه شخصًا عاديًا سيما وقد شكّل جيشًا من الأصدقاء بطبعه الودود ولغة جسده شبه المفهومة وأخلاقه الطيبة. كان يريد أن يثبت للعالمِ كلِّه أن ذي الإعاقة السمعية -ورغم احتياجاته الخاصة- إلا أنه قادرٌ على الاندماجِ تمامًا مع مجتمع السامعين "المعقّد"، وأن المشكلة تكمن في إهمال المؤسسات الرسمية والحكومية تعليم السامعين لغة الصم، والعكس أيضًا صحيح.

أضمرَ محمود في نفسه أن يكرر المحاولة في الحصة المقبلة، ففاطمة جذبته بشغفها للتعلم، وسرعة بديهتها، وفهم إشاراته بالفطرة دونًا عن من أقبل يتعلم لغة الإشارة لغرض "المنظرة" أو "العمل في مجال الترجمة". جاء موعدُ الحصة الثانية، لكن فاطمةَ لم تأتِ! هنا قاطع محمود الحديث وبدأ يحرك كلتا يديه مبديًا رغبته بالمداخلة.

دون أدنى مبالغة، لو كنتَ تشاركنا الجلسة صديقنا القارئ لسمعت صوت قلبه يتحدث، ولرأيتَ في عينيه لمعة فرحٍ ناعمٍ لا تخبِّئها إلا عينا "عاشق". قال وكانت خطيبتُه تترجم كلامه: "قلبي انكسر، حاولت أن أسأل عنها لكنها لم تعُد أبدًا". تبررُ فاطمة ذلك الغياب بقولها: "شعرتُ بأنني قد أسقط في فخ قصةٍ غير مأمونة العواقب، أهلي سيرفضون، هذا أكيد، وأنا أيضًا سألتُ نفسي ألف مرة: ترى هل هذا ممكن؟ كيف سأتفاهم معه؟ هل ستكون الحياة سهلةً برفقة أصم؟ ماذا سيقول المحيطون بي وأنا التي لا ينقصني شيء من علمٍ وفهمٍ وجمال؟".

بعد شهرٍ واحدٍ التقيا صدفةً، سألها بإشارات يده: "أينَ أنتِ يا فاطمة؟"، فأشهرت في وجهه يدها بذبلةٍ لمَعت تحت الشمس، تمامًا كتلك الدمعة الخفية التي خبأها في قرارة روحه، "لقد خُطِبتُ يا محمود.. شكرًا للصدفة التي جمعتني بك، ووداعًا إلى الأبد".

بعد شهرٍ واحدٍ التقيا صدفةً، سألها بإشارات يده: "أينَ أنتِ يا فاطمة؟"، فأشهرت في وجهه يدها بذبلةٍ لمَعت تحت الشمس

صدفةٌ قدرية

مضَت هي، ومضى محمودُ في محاولةٍ جديدة مع فتاةٍ مكثَ يعلِّمُها اللغة عامين، أحبّها من كل قلبه طوال تلك الفترة فبادلته المشاعر، لكن والدها رفَض الفكرة، وبعد أسبوعٍ فقط "خُطِبت الأُخرى".

كان البحرُ وحدهُ يربت على كتف القلب، ويصغي إلى نبض روح محمود التَعِبة، ستة أشهرٍ يراقب خلالها انتحار الشمس في عرض البحر وقت المغيب فيمضي إلى حيثُ لا يعلم، إلا في آخر مرة، وكأن الله طلب منه أن يمضي في ذلك الاتجاه، وأن يُمعن لأول مرةٍ النظر في الوجوه ليقابل فاطمة.

بارتجافة الصوت التي تصاحب الحديث عن المعجزات عادةً أكملت فاطمة، "كنت برفقة عائلتي على نفس الشاطئ للاستجمام، رأيته مترددًا عن الإقبال لإلقاء التحية فشجّعته بابتسامة بمعنى (أهلًا محمود.. نعم لقد عرفتُك)، أقبل وسألني بلغته التي أفهمها جيدًا رغم القليل الذي تعلمتُه منها: كيف أنتِ؟ وكيف هو زوجك.. أطفالك؟. صمتُّ قليلاً وأشرتُ بيدي: أنا لم أتزوج، لقد تركت خطيبي بعد شهر لأننا لم نتوافق".

كادت فاطمة أن تلتقط قلبه بيديها لشدة خفقانه -حسب تعبيرها- "ماذا؟ ما هذا القَدَرُ الذي يمكن أن يجمعنا بعد كل هذه السنوات؟ وبعد قصتين تحطّمت حروفهما تحت عجلات حجة التفاهم؟ انطلق محمود يسلِّم على أهل فاطمة، فرأى أمها، قال لها بحركات يديه كلمةً لم يفهمها إلا فاطمة: أنا أحب فاطمة، وسأتزوجها بإذن الله". وغادر.

كل التفاصيل تكاتفت لتصنعَ نهايةً عظيمة، رفَضت فاطمة على مدار عامين ثانيين فكرة الارتباط بمحمود أو بغيره، رغم كل الرسائل التي أرسلها إليها: "سأترُككِ تعملين في المجال الذي تحبين، سأسعى كي تكملي دراسة الماجستير في اللغة العربية، وسأعلمكِ لغة الإشارة، سأقدم لكِ كل ما تتمنى الفتاة من فارس أحلامها. لن أغدُرَ ولن أخونَ ولن أمنُن".

عامان آخران مرّا، والرفضُ خيّم على عقل فاطمة، حتى أنها ملّت، تزيد، "كان آخر حديث بيننا قبل كتب كتابنا بأسبوع، يومها سألَني: لآخر مرةٍ يا فاطمة.. أتقبلين بي زوجًا لكِ؟ أجيبي وأعدك بأنني لن أزعجك بعد ذلك أبدًا. قالت له قطعًا: لا.. لا يا محمود، هذا مستحيل". لتنام ليلتها بعد أن أغلقت هاتفها النقال، وقرأت على نفسها المعوذات.

ارتفعت شمس الصباح تُلقي التحية على ضمير الكون النائم، صَحَت فاطمة، أمسكَت هاتفها، وفتحته لتكتب رسالةً بعينٍ نصف مفتوحة: "إلى محمود.. أنا موافقة، وعند الله البقية"..

صَحَت فاطمة، أمسكَت هاتفها، وفتحته لتكتب رسالةً بعينٍ نصف مفتوحة: "إلى محمود.. أنا موافقة، وعند الله البقية

عُقِدَ قران الاثنين آخر أيام تموز الماضي، لم يكن محمود على علمٍ بكل مجريات الحدث لأن أحدًا من الموجودين لم يكن يعرف شيئًا عن لغة الإشارة! سألت فاطمة نفسها: "كيف كان محمود يتواصل مع الآخرين طوال تلك السنين؟ لماذا كان عليه أن يضطر لتكرار الإشارات ألف مرةٍ حتى يفهم من حولَهُ ماذا يريد أن يقول؟ لماذا لم يخبره أحدٌ بأن النساء في الداخل يزغردن لفاطمة؟". هنا أقسمت لتعلمنّه اللغة العربية حروفها وكلماتها وعباراتها كلها، حتى يستطيع على الأقل أن يتعامل مع السامعين باللغة المكتوبة.

عاد محمود للمقاطعة بصمته الأنيق، وترجمت عنه فاطمة القول مجددًا، "فاطمة اليوم وطني الذي أنتمي إليه وأرفع على أكتافه راية انتصاري. هي هدية الله لي، أنا على يقينٍ بأن أجمل رسائل الحب هي تلك التي لا تُكتب ولا تُقال، وفاطمة سترى معي ما هو أكبر من رسالة حب، سترى الاحترام والتقدير والدعم والأمان".

لم يعُد محمود ينام خائفًا من الغد، فهو اليوم يتدثّر بعيني فاطمة، يغازل الشمس في حضور وجهها. تلك الجميلة الهادئة المتواضعة التي احتارت بفرط حبه لها كيف يمكنُ أن تُطمئن قلبه أكثر فكتبت له عبر حسابها على فيس بوك، رسالةً من كلامٍ كثيرٍ يُسكت ألسنة كل من ينتقِد، كلُّ من يعلّقُ على خطبة ناطقةٍ بأصم وفقاً لنظرته الإنسانية القاصرة.

كتَبَتْ لهُ لتُخبِره أنه أمانها، وأنها ملاذ قلبه الأخير. وعاهدَت نفسها أنه سيقرأ رسالتها تلكَ يومًا ويبتسم. سيُزفُّ محمود وفاطمة في الثلاثين من تشرين ثاني/نوفمبر المقبل، ستضع فاطمة في ممر استقبال المدعوين صورةً كبيرة لهما معًا وهما يرفعان الخنصر والسبابة ويتبعانهما الإبهام، ويقولان لبعضهما أمام العالم بأسره "أحبك" بلغة الإشارة.

وتحتفل الأمم المتحدة في يوم الـ 23 أيلول/ سبتمبر من كل عام، باليوم الدولي للغة الإشارة، اعترافًا منها بأهميتها في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وكذلك لحماية الهوية اللغوية والتنوع الثقافي لجميع من يستخدمون تلك اللغة. ويوجد 72 مليون شخص أصم في العالم بحسب إحصاءات الاتحاد العالمي للصم، يعيش منهم 80% في البلدان النامية، ويستخدمون أكثر من 300 لغة إشارة.


اقرأ/ي أيضًا: 

شبان وشابات من غزة يتعلمون النطق بالكاميرا

عن "الحاسة المنبوذة" في مدارس تابعة لـ"الأونروا"

عندما قتل الاحتلال جهاد مقتلعًا عيون شقيقاته