20-فبراير-2017

من الكويت إلى العراق، انتهاءً بقطاع غزة المحاصر، تغيّرت أماكن السكن لكنّ الحال واحد، وهو اللجوء بدون بطاقة شخصية "هوية". هكذا هو حال الشقيقين حمدي وديما شعشاعة اللذين عادا إلى قطاع غزة قبل 22 عامًا أملاً بإنهاء فصول اللجوء والغربة، لكن الحال لم يتغير كثيرًا.

"البدون" هي الصفة التي تُطلق على الشقيقين شعشاعة الآن، وعلى آلاف الفلسطينيين الذين يعيشون معاناةً مشابهةً في قطاع غزة، ويُقصد بها فلسطينيون ورثوا اللجوء في دولٍ عربيةٍ عن أهاليهم، ثم عادوا إلى قطاع غزة بتصاريح زيارةٍ أو بشكلٍ غير شرعي، لكنهم لم يحصلوا على هويات فلسطينية، فأصبحوا معلقين لا يمكنهم تسيير أمورهم هنا، ولا العودة من حيث جاؤوا.

يعيش في قطاع غزة أكثر من 5 آلاف فلسطيني دون هويات، فلا حقوق لهم، ولا يستطيعون السفر لأي سبب

حمدي (29 عامًا) وديما (27 عامًا) وُلِدا في الكويت، وبعد حرب الخليج الثانية انتقلا للعيش في بغداد بالعراق، لكن نتيجةً لعدم شعور العائلة بالاستقرار، قررت العودة لفلسطين، فدخلت قطاع غزة عام 1995 بتصريح زيارة، وهناك درس حمدي تخصصي إدارة الأعمال وهندسة الديكور، وهو يدير مع ديما "أتيليه تذكار".

اقرأ/ي أيضًا: طلاب أجانب في غزة: هنا ما يستحق الحياة!

يقول حمدي: "تلقينا الكثير من الدعوات للمشاركة في معارض دولية، وكانت عقبتنا أننا لا نمتلك هوية". فيما تضيف ديما، أن أبرز هذه الفرص كان معرضًا للحرف اليدوية في أبوظبي، يتعلق في جانبٍ كبيرٍ بالتراث الفلسطيني والفلكلور الشعبي. وقد أحسَّت بعجزٍ وأسفٍ كبيرين لعدم تمكنها وشقيقها من السفر للمشاركة.

ويحتاج الأخوان في عملهما لموادٍ خام وألوانٍ وخزفٍ من الضفة الغربية، أو عمّان، لكن عدم قدرتهما على السفر تشكل عائقًا كبيرًا في عملهما، بعد أن قضيا سبعة أعوامٍ يجتهدان لإنشاء الـ"الأتيليه"، وقد اشتريا بضائع عن طريق توصية معارف لهما، أو من خلال الإنترنت، دون أن يتمكنا من رؤيتها ومعرفة جودتها إلا بعد وصولها، وقد وجداها أحيانًا دون المواصفات المطلوبة.

واضطر الأخوان شعشاعة في العديد من المعاملات لإحضار شهودٍ وحلف يمينٍ أمام المحكمة، لإثبات شخصيتهما. تقول ديما: "عندما كنت في الثانوية العامة لم أكن أمتلك إلا الوثيقة المصرية وصورتي فيها وأنا بعمر 4 سنوات، وبمجرد انتهاء الامتحان الأول طلبوا مني إثبات شخصيتي، فتوجهت للمحكمة خلال امتحاناتي وأحضرت ورقة تؤكد أن صاحبة الصورة تلك هي ذاتها الفتاة التي في ورقة الإثبات".

ويروي حمدي، أن الجامعة الإسلامية وخلال دراسته فيها عام 2013، اختارته ضمن وفدٍ للمشاركة في دورةٍ تدريبيةٍ بإسطنبول في مصانع الخزف، عبر وثيقته المصرية، لكن الأمر انتهى بتحقيقٍ مطولٍ من قبل السلطات المصرية.

ويبين، أنه كان يحمل خلال سفرة هويتي والديه كإثباتٍ لشخصيته، وعلى وثيقة السفر ختم الخروج، إلا أن السلطات المصرية احتجزته وحققت معه حول شخصيته، ودخوله إلى غزة، وعمله بها، وكيفية خروجه منها.

يتابع، "قدمت لهم الهويتين والختم الذي يثبت خروجي من غزة، إلا أن الموظف قال لي: لا يهم قد يكون الختم مزورًا. ورغم أنه كان بإمكانه التأكد من خروجي من خلال أجهزة المعبر التي تسجل كل حالة خروج، إلا أنه رفض التعاون واضطرني لدفع رشوة مقابل الإفراج عني".

وكانت السلطات المصرية أصدرت للفلسطينيين الذين هُجّروا عقب نكبة 1948 أو نكسة 1967 من فلسطين إلى الأراضي المصرية عبر سيناء ما يُسمي بوثيقة سفر اللاجئين الفلسطينيين، لإثبات شخصياتهم وتمكينهم من التنقل بالخارج، إلا أنها لا ترقي إلى مرتبة جواز السفر، إذ لا تعترف بها كثيرٌ من الدول.

في فترة حكم حركة حماس لقطاع غزة، أُصدرت لـ"البدون" بطاقات تعريفٍ لتسهيل معاملاتهم اليومية الداخلية، مثل الزواج والعلاج والدراسة والتوظيف والمعاملات حكومية، إلا أن هذه البطاقات غير معترفٍ بها من قِبل السلطة الفلسطينية، ومن كافة المؤسسات الموجودة في غزة وتتبع إدارتها للسلطة، كما أن حامليها لا يتمكنون من السفر لأي سبب، بما في ذلك العلاج أو التعليم أو أداء الشعائر الدينية.

أصدرت حماس بطاقات تعريف لـ"البدون" لكن السلطة الفلسطينية ترفض الاعتراف بهذه البطاقات التي لا تمنح حامليها فرصة السفر

وشكّل "البدون" الذين عادوا لغزة بتصاريح زيارةٍ رسميةٍ لجنةً شعبيةً خاصةً بهم، للضغط على الرأي العام من أجل التفاعل معهم لحلّ مشكلتهم. وبعد مباحثاتٍ طويلةٍ وضغوطٍ كبيرةٍ تم الاتفاق بين الرئيس محمود عباس ورئيس الوزراء الاسرائيلي السابق إيهود أولمرت على حلّ هذه القضية عام 2007.

وباشرت سلطات الاحتلال فعلاً بإصدار هوياتٍ حسب أقدمية العودة لقطاع غزة، بدءًا من عام 1993، قبل أن يتم تجميد الملف عام 2008 إثر تغير الحكومة الإسرائيلية، وعودة بنيامين نتنياهو لاستلام رئاستها، وبقيت 5300 حالة عالقة إلى اليوم، من أصل 55 ألف حالة.

الشاب محمد البطنيجي (33 عامًا) يعيش مع عائلته معاناةً تزيد أضعافًا عن السجن الذي يعيش الشقيقان شعشاعة فيه. فالعائلة انقسمت منذ عام 1999 بين غزة وقطر، إذ عاد محمد مع والديه وأخواته الأربعة حينها عبر مطار غزة الدولي، تاركين خلفهم بقية العائلة، وهم شاب وبنتين.

اقرأ/ي أيضًا: من غزة إلى بلجيكا.. مغامرة ينقصها الموت

وسعت العائلة إلى الحصول على "لم شمل"، إلا أن اندلاع الانتفاضة الفلسطينية بعد نحو عامٍ من عودة العائلة، أفشل المحاولة، ليبقى شمل العائلة مشتتًا حتى الآن، دون أي لقاءٍ في الأفراح والأتراح.

يقول محمد: "أبسط حقٍ لأي إنسانٍ أن يشارك ابنه فرحه. لقد تزوج أخي في الخارج ولم يتمكن والداي من المشاركة في زفافه. كما تزوجت أنا هنا ولم يستطع إخواني حضور الفرح".

ويبين محمد، أنه قُبل للعمل في إحدى شركات الاتصالات، لكن عند توجهه لتوقيع عقد العمل، علمت الشركة أنه يملك بطاقة تعريفٍ وليس هوية، فأوقفت العقد وجمدت المعاملة طالبةً إحضار إثباتٍ يقضي بإمكانية حصوله على هويةٍ لاحقًا بموافقة سلطات الاحتلال.

يتابع، "قدمت للشركة ورقةً من الشؤون المدنية، وبناءً عليها وعلى حُسن أدائي في مقابلة العمل قبلوا مرغمين. وعملت فترة تحت عقد مؤقتٍ بسبب عدم امتلاكي هوية، ثم تم تثبيتي عام 2010، لكن لم أحصل على أي ترقياتٍ في وظيفتي، كما تلقى زملائي دوراتٍ في الضفة الغربية والخارج لتطوير أدائهم الوظيفي، وحصل بعضهم على منحٍ لمتابعة دراستهم العليا خارج قطاع غزة، فيما حُرمت أنا من كل ذلك".

صلاح البطنيجي "والد محمد" يعاني من ضعفٍ في عضلة القلب، يقول: "دخلت العناية المركزة في مستشفى الشفاء بغزة ثلاث مرات، وفي كل مرةٍ كان الأطباء يؤكدون حاجتي للتوجه لمستشفى المقاصد في القدس لإجراء عملية قسطرة، لكن لم أتمكن من ذلك أبدًا".

أما الوالدة "نوال" فتعاني من مرض السكري الذي أصيبت على إثره بتهتكٍ في شبكية العين، تقول: "أعاني منذ 8 سنوات ونصحني الكثير من الأطباء بالسفر لإجراء عمليةٍ في مصر، حيث لا تتوفر الإمكانيات هنا. لكن لم أستطع السفر رغم تدهور وضعي الصحي يومًا بعد يوم".

ولا يستطيع صلاح ونوال التوجه إلى مكة المكرمة من أجل الحج أو العمرة، وحتى الخروج للصلاة في المسجد الأقصى، رغم أن سنهما يتيح لهما أداء صلاة الجمعة هناك، حسب إجراءات الاحتلال، إذ يخافان إن سُمح لهما بالمغادرة، أن لا يُسمح لهما بالعودة.

وتشتكي لجنة "فاقدي الهوية" مما تقول إنها "سوء معاملةٍ" تتلقاها من الجهات الرسمية الفلسطينية، "كما لو كانوا فئةً غير معروفٍ أصلها"، مضيفة، أن هذه الجهات لم تبدِ أي تجاوبٍ مع قضيتهم، وربطت القضية دائمًا بالجانب الإسرائيلي، الذي تقول اللجنة إنه غير معنيٍ بالحل، "ولو تمكن من ترحيلنا للخارج فسيفعل".

يُقسم "البدون" إلى فئتين، إحداهما ستُحل قضيتها بقرارٍ إسرائيليٍ، والأخرى لا حل لمشكلتها عند الحل النهائي للصراع

"ألترا فلسطين" حمل التساؤلات في هذه القضية إلى الهيئة العامة للشؤون المدنية الفلسطينية في قطاع غزة، ليأتي الرد من قبل مدير الإعلام محمد المقادمة، الذي أوضح أن هناك فئتين من "البدون" في قطاع غزة، إحداها التي دخلت خلال تسعينات القرن الماضي بالتنسيق مع الاحتلال، والأخرى دخلت بعد الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة ودون تنسيقٍ رسمي.

وأفاد المقادمة، بأن قضية الفئة الأولى مجمدةٌ بقرارٍ من مكتب رئيس حكومة الاحتلال، في حين أن القضية الثانية مؤجلةٌ إلى "الحلول النهائية للوضع الفلسطيني بشكل عام"، إذ تعتبر إسرائيل وجودهم غير قانوني، وترفض تمامًا منحهم أي هويات.

وأضاف، "الاتفاقيات المرتبطة بالجانب الإسرائيلي بإصدار هويات أو جوازات سفر، ليست اتفاقياتٍ إسرائيليةٍ فلسطينيةٍ، وإنما هي مرتبطةٌ بكل الإقليم وأغلب دول العالم، وبالتالي إذا لم يوافق الإسرائيلي على منح هويةٍ أو رقمٍ وطنيٍ لهذا المواطن، فإنه لن يحصل على جوازٍ فلسطينيٍ رسمي".

وأكد أن الجانب الفلسطيني انتهى من كل الضغوط التي يستطيع ممارستها، وأن الأمر يحتاج لانفراجةٍ سياسيةٍ، وليس له أي حلٍ آخر، مضيفًا أنّ "تصريح الزيارة الذي يملكه فاقدو الهويات يشرعن وجودهم، وفي بعض الحالات الإنسانية المحدودة جدًا، يُمكن أن يتم تسهيل سفرهم أو مغادرتهم للضفة الغربية، لكن نحن ننظر لكل حالةٍ بمفردها".

وأشار إلى أن "البدون" يستطيعون الحصول على جواز سفرٍ للاستخدام الخارجي فقط، أي السفر من مطار لآخر خارج قطاع غزة، فيما يقول "البدون" إن جواز السفر هذا لا يضمن لهم العودة لقطاع غزة، هذا إن أتاح لهم الخروج، كما أن الحصول عليه أصلاً لا يتم إلا بدرجةٍ عاليةٍ من التنسيق.

اقرأ/ي أيضًا:

غزة.. و"بديهيات الحب" في "حارة العبيد"

غزة: زوجات مغتربين بين تضييق الأهل ونار الشوق

بالصور: غزة.. هل يزيل الفن آثار العدوان؟