26-أبريل-2017

صورة تعبيرية – عدسة: عز الزعنون (Getty)

تتشابه القصص مع اختلاف بعض التفاصيل والملامح، بمجرد أن تطأ قدماك البوابة الرئيسيّة لمبرّة الرحمة المختصة بإيواء الأطفال مجهولي النسب في قطاع غزة. ستشاهد شاشةً كبيرة معلقة إلى يسارِ مكتب المدير المسؤول، لترصُدَ كافة التحركات التي تحدث في غرف الإيواء والممرات.

أطفالٌ رُضَّع يتم التخلص منهم في ساعاتِ حياتِهم الأولى، يُلقون أحيانًا بحبلهم السرّي ملفوفين بقطعة قماش في أحوالٍ جوّية صعبة، يتم وضعهم داخل علبِ «كارتون» أمام مسجدٍ أو حاوياتٍ أو في العراء، ليكونوا أمام رحمة صدفةٍ تلتقطهم وتمنحهم الحياة، أو يُترَكون للموت، أو فرائس للحيوانات الضالة.

45 رضيعًا تركوا أمام المساجد وقرب الحاويات في قطاع غزة خلال السنوات الست الأخيرة، بعضهم أُلقوا بحبلهم السري

في قطاع غزة، سُجلت أربع حوادث مُنفصلة خلال عامي 2016 – 2017، كان آخرها يوم 20 شباط/فبراير 2017، ليرتفع عدد الأطفال الذين تركوا في العراء خلال السنوات الست الماضية إلى 45 حالة.

اقرأ/ي أيضًا: أعشاب سامة في "دكاكين الطب البديل" بغزة

"ألترا فلسطين" توّجه لجمعيّة "مبرة الرحمة"، وهي جهة الإيواء الوحيدة في قطاع غزة، لمعرفة مصير هؤلاء الأطفال بعد العثور عليهم. الكثير من الأسماء الوّهميّة لأطفالٍ يقطنون الجمعية، بألوان بشرةٍ مختلفةٍ "عماد، محمد، عبير"، بملامح لا تتشابه إلا في البراءة.

حازم النعيزي المُشرف في جمعية مبرّة الرحمة أوضح لنا، أن الجمعية تتسلم الأطفال فوّر العثور عليهم، من خلال وزارة الداخليّة، بعدَ استكمال كافة الفحوصات الطبيّة، لتكون الجمعيّة محميّة قانونيًا في حال تعرضَ أي طفلٍ لمضاعفاتٍ صحيّةٍ أو للوفاة.

ويبين النعيزي، أن الجمعية تحصل على مواصفات الطفل كاملة من الشرطة، وعند وصوله تفتح ملفًا خاصًا به وتأخذ بصمة أقدامه، ثم تراسل إدارة المستشفى ووزارة الصحة لإصدار شهادة ميلادٍ بأسماء لا تتعارض مع أي من العائلات في السجل المدني، ويُعطى هؤلاء الأطفال اسم أب وأم غير حقيقييّن، وتتكفل الجمعية بكافة المصاريف لهم، من رعايّة صحيّة وتعليم.

في "مبرّة الرحمة" يمكن إحصاء نحو (140) طفلاً مجهول النسب في الحضانة الشرعيّة، بحسب ما قال النعيزي، فالجمعيّة هي الملجأ الوحيد في قطاع غزّة لإيواء الأطفال، وأُقيمت عام 1993 عبر مجموعةٍ من الأطباء الذين تنبهوا لضرورة إيواء الأطفال مجهولي النسب.

ويبلغ العدد الإجمالي للأطفال الذين وصلوا الجمعية منذ إقامتها 180 طفلاً، وقد سُجلت 13 حالة وفاة بينهم.

كيف يولد هؤلاء الأطفال؟ يجيبنا مصدرٌ في وزارة الصحة بأن ذلك يتم في البيوت، ثم يُلقى الطفل أمام حاويةٍ أو مسجدٍ في ساعاته الأولى، مع بقاء ملقط الحبل السُري مرتبطًا بالطفل، لتهتم بتعقيمه الوزارة قبل تسليمه للشرطة.

ويؤكد المصدر، أنه لا يسمح بدخول أي حالةٍ لقسم التوليد دون التعرف على هويتها، أو الاطلاع على أوراقها الثبوتيّة، كالتأمين الصحي إن توّفر، أو حتى عقد الزواج في الحالات التي لا تتوفر فيها الأوراق الأوليّة التي تُدلل على الشخصيّة.

وزارة الداخلية رفضت التعاطي معنا تمامًا في هذا الملف، وتزويدنا بأي معلوماتٍ عن إلقاء القبض على أشخاصٍ ألقوا أبناءهم في العراء طوال السنوات الماضية. فيما نفت جمعية "مبرّة الرحمة" وجود عائلاتٍ تراجعت عن إلقاء أطفالها وطالبت لاحقًا باستعادتهم.

ويعد إلقاء الأطفال في العراء جريمةً في القانون المعمول به في قطاع غزة، وقد ورد ذلك بوضوحٍ في ثلاث مواد قانونية، وفقًا للباحث القانوني عبد الله شرشرة.

يُعاقب من يهجر أو ينبذ طفلاً دون السنتين بالسجن خمس سنوات، لكن جلسات النظر في مثل هذه القضايا تكون سرية

تنص المادة 184 تحت عنوان "نبذ الأولاد" على أن "كل من هجر أو نبذ ولدًا دون السنتين من عمره هجرًا أو نبذًا غير مشروعٍ بصورةٍ تؤدي إلى تعريض حياته للخطر، أو على وجه يحتمل أن يسبب ضررًا مستديمًا لصحته، يعتبر أنه ارتكب جناية ويعاقب بالحبس مدة خمس سنوات".

اقرأ/ي أيضًا: المقاولات في غزة.. تدليس أم شطارة؟

ويمكن النظر للأمر أيضًا حسب المادة 185 المتعلقة بـ"الامتناع عن إعالة الأولاد"، التي نصت على أن "كل من كان والدًا أو وصيًا أو وليًا لولدٍ صغيرٍ لا يستطيع إعالة نفسه أو كان معهودًا إليه شرعًا أمر المحافظة على ذلك الولد والعناية به، ورفض أو أهمل تزويد ذلك الولد بالطعام والكساء والفراش والضروريات الأخرى (مع استطاعته القيام بذلك) مسببًا بعمله هذا الإضرار بصحة الولد، يعتبر أنه ارتكب جنحة".

أما المادة 186 المتعلقة بـ"التخلي عن إعالة الأولاد"، فتنص على أن "كل من كان والدًا أو وصيًا أو وليًا لولد لم يتم السنة الثانية عشرة من عمره، أو كان معهودًا إليه شرعًا المحافظة على ذلك الولد والعناية به وتخلى عنه قصدًا ودون سبب مشروعٍ أو معقولٍ مع أنه قادرٌ على إعالته، وتركه دون وسيلةٍ لإعالته، يعتبر أنه ارتكب جنحة".

ويقول الباحث القانوني شرشرة، إن الحصول على معلوماتٍ بهذا الشأن ليس سهلاً، لأن القضاة يتعاملون مع هذه القضايا بحساسية، فتكون جلسات النظر فيها داخل المحاكم سرية حسب مادة 237 من قانون الإجراءات الجزائية، التي تتيح للمحكمة إجراء محاكمات سريةٍ "لاعتبارات المحافظة على النظام العام أو الأخلاق".

وفي كل مرةٍ يُعلن فيها العثور عن طفلٍ هنا أو هناك، تبرز مطالباتٌ بإجراء تعديلاتٍ على قوانين الحضانة الشرعية لتتيح الحضانة بشكلٍ أوسع، فما هي الشروط الحالية للحضانة؟ يبين النعيزي أن الجمعية حصلت على فتوى شرعيةٍ بإضافة كلمة "مولى" بعد حضانة الطفل ليحصل على اسم العائلة الحاضنة.

وبحسب النعيزي، فإنه يشترط أن تكون العائلة الحاضنة مُقتدرة ماليًا وغير مُنجبةٍ على الأقل لـمدة (10) سنوات، مع ضرورة وجود إثباتٍ طبيٍ لكلا الزوّجين، وأن لا يتجاوز عمر الزوج (50 عامًا)، وأن لا تكون الزوجة قد تجاوزت سن الـ40.

حضانة طفلٍ مجهول النسب في غزة تحتاج موافقة لجنة خاصة، بعد استيفاء شروط متعلقة بوضع الزوجين المادي، وعدم إنجابهما لـ10 سنوات

وتتم دراسة طلبات الحضانة عبر لجنةٍ مشتركةٍ مُشكّلةٍ من وزارة الشؤون الاجتماعية ومديرية الأحوال المدنيّة والقضاء الشرعي، وفقاً لتطابق الشروط، وفي حال الموافقة فإن الزوجين يختاران جنس الطفل سواءً أكان ذكرًا أم أنثى.

ويتوجب على الجمعية متابعة حضانة الطفل عبر زياراتٍ دوريةٍ للتأكد من حسن عملية التبني، هذا إضافة لاشتراط إرضاع الطفل من ذوي قربى للزوج، سواءً أخته أو أمه، في حال كان الطفل فتاة، "لمنع الوقوع في مخالفاتٍ شرعيةٍ عند وصولها سن البلوغ"، وفقًا للنعيزي.

ومع بقاء هوية أهالي الأطفال مجهولة بالنسبة للرأي العام على الأقل، يظل صعبًا تحديد الأسباب التي تقف خلف تكرر مثل هذه الحالات، إذ تعزو أطرافٌ الأمر إلى الوضع الاقتصادي السيء الناتج عن سنوات الحصار في قطاع غزة، وهي الفرضية التي يستبعدها كثيرون، بينهم الأخصائي النفسي رياض البرعي، الذي ذهب لترجيح فرضية "سفاح القربى" و"وزنا المحارم" كسببٍ أساسي.

ويقول البرعي، إنه مهما كان وضع الأسرة الاقتصادي، فإن الجنين يبقى "مفخرة" بالنسبة لها، وتأكيدًا لعقد الزواج الذي يجمع بين الزوجين، مضيفًا، أن العلاقة غير الشرعية هي التي تدفع الأهل لرمي الرضيع للتخلص من تبعات الموضوع، وخوفًا من الفضيحة.

ويرى البرعي أن العثور على ثلاثة أطفال منذ بداية العام الجاري، يجب أن يفتح الباب أمام أهمية التعاطي مع النساء المعنفات، لتفادي تفاقم ظاهرة الأطفال "مجهولي النسب"، وضرورة تكاتف الجهود بين المؤسسات المحليّة والرسميّة وحقوق الإنسان من أجل تقليص تلك الحالات.

اقرأ/ي أيضًا: 

منشطات سرية قاتلة تباع سرًا في الضفة

شركات خاصة لاستغلال الفتيات في الضفة

سيارات تأجير غير صالحة للسير على الطرقات