19-يوليو-2018

- مروحين يا شباب
- آه يلا
- على باص 11
- هو في إلنا برَكة غيره!

حوارٌ يومي بين الأربعيني رباح المحلاوي وزملائه، لا يملّون من ترديده مع كل موعدٍ للإياب من العمل، بينما يبادلون بعضهم بابتساماتٍ تُخفي يومًا مليئًا بالإرهاق، ويمضون معًا إلى بيوتهم على "باص 11" - في إشارة إلى الساقين - أي سيرًا على الأقدام.

الطريق الواصل بين بيت المحلاوي في منطقة الشاطئ غرب مدينة غزة ومكان عمله جنوبًا، حفظ خطوات قدميه، وأَلِفَ القاطنون فيه تحيّته مرتين يوميًا منذ عدة أشهر ذهابًا وإيابًا.

"باص 11" بديلاً عن المواصلات للغزيين الذين جعلتهم الأزمة الاقتصادية غير قادرين على دفع ثمن المواصلات ذهابًا إلى أعمالهم وإيابًا منها

ساعة كاملة يستغرقها المحلاوي في الطريق، وإن "شدّ حيله" كما يقول لـ الترا فلسطين، فإنه يختصر ثُلث الوقت، لكن ذلك صعب عليه، كونه يُعاني من تمزقٍ في قدميه. يقطع حديثنا بضحكة مُتخمة بالوجع "لولا العيب لكُنت أتريّح بنص الشارع"، فيما يحاول تخفيف ثقل الطريق بالدعاء والاستغفار  والتأمل.

اقرأ/ي أيضًا:

وكما يقول الغزيون "بلاء وعم"، فلم يعد المحلاوي وزملاؤه وحدهم من تبدّل حالهم بعد أنصاف الرواتب، فقد طالت الأزمة بشؤمها جميع موظفي قطاع غزة، سواء التابعين لحكومة غزة السابقة، أو التابعين للسلطة الفلسطينية، أو حتى المؤسسات الخاصة والحزبية، ليُصبح الجميع "في الهوا سوا".

يجد المحلاوي وزملاؤه أنفسهم مضطرين لقطع مسافة تزيد عن 4 كم، ما يُحتم عليهم استغلالها في نقاش كل صغيرة وكبيرة تتعلق بالشؤون السياسية والاجتماعية وحتى الرياضية، وُكل ما يتبادر إلى أذهانهم. تقطع حديثهم بين لحظةٍ وأخرى أصوات السيارات المرتفعة وإلحاح سائقيها "وين؟ طالعين؟"، فيجيبُ أحدهم "تزمروش إحنا موظفين غزة".

أربعة شواكل يُحاول المحلاوي توفيرها يوميًا، أي ما يقارب 100 شيكل شهريًا، علها تُسهم في سد جزء مما يلزم لعائلته ووالديه وشقيقته في نفس البيت، فهو وحيدٌ لأهله، وليس له أشقاء يُسعفون جيبه إن ضاق به الحال، فهو يتقاضى نصف راتب كل شهر ونصف.

ومن باب "شو جابرك على المُر إلا الأمرّ منه"، يُحاول محمد مصطفى (37 عامًا) إيجاد مخرجٍ نفسي يُعينه على تحمل عناء الطريق، باعتبارها فرصة لممارسة الرياضة وزيادة لياقة الجسم، وهي أيضًا فرصة لتوفير المال الذي لا يملك منه في الجيب إلا القليل الذي يُسعفه لنصف الطريق فقط. يقول متندّرًا: "مضلش ولا محل إلا وحفظتْ اسمه".

يعود مصطفى من عمله في إحدى المؤسسات الخاصة بمنطقة تل الهوا حتى مفترق السرايا وسط مدينة غزة مشيًا على قدميه، أي أنه يقطع ما يعادل 3 كم، ثم يستقلُ سيارة يقطع بها نصف الطريق، ثم يُكمل بعدها السير إلى بيته في مدينة جباليا، وبذلك يقتصد ثلاثة شواكل يوميًا، حتى اعتاد على قضاء مُعظم "مشاويره" الأخرى سيرًا على الأقدام.

تركت أشعة الشمس أثرًا واضحًا في ملامح وجه مصطفى الذي يُحاول الهرب منها كُلما مر بجوار حائطٍ أوشجرةٍ تُظلّه ولو قليلاً، وأحيانًا يستسلم للحر الشديد، لكنّه يتحمّل مُكرهًا، لتوفير ما يُمكن توفيره، كي يستطيع الحضور إلى عمله في اليوم التالي، كما يُبين لــ الترا فلسطين.

رياضة المشي قد تكون أخف عبئًا على الشباب من غيرهم، لكنْ في أوقاتٍ معيّنة يختارونها هم، لا أن يُجبروا عليها تحت لسعات الشمس. ولا يمكنك أن تُقدّر حجم السعادة حين يُصادف أحدهم صديقًا له في الطريق، فيُقلّه بسيارته، وبذلك يوفّر عليه قسطـًا من واجب التعب اليومي.

مشهدٌ يعيدُ أذهان المواطنين والسائقين لماحدث في عام 2007، عندما أصيبت حركة السير بشلل كامل لعدم وجود وقود السيارات، وأُجبر المواطنون على قضاء معظم احتياجاتهم سيرًا على الأقدام. انتشرت حينها جُملة "كيف رايح؟".. "على باص 11". لكن المُختلف آنذاك تكدس الركاب وشح السيارات، وكان مستساغًا جدًا أن يركب 6 أشخاص في سيارة لا تسع إلا لأربعة فقط، وأن تسمع الشكوى المعهودة بعد نزول الراكب "عظامي دخلت في بعض"، "جسمي اتكسّر". بينما انقلب الحال تمامًا الآن، فالتكدس في السيارات، والشح في الرُّكاب.

عرفت غزة "باص 11" في سنة 2007، لكن في ذلك الوقت كان هناك تكدس في الركاب، وشح في السيارات، أما الآن فتكدسٌ في السيارات، وشحٌ في الركاب

"حمولة السيارة كانت في السابق لا تستغرق إلا بضع دقائق، بينما هذه الأيام تصل إلى ساعتين دون الحصول على راكب، وهذا يعني ضياع البنزين أو السولار دون جدوى، فيُصبح العبء مضاعفًا" كما يقول السائق عادل حسن لـ الترا فلسطين.

كان يحصل الخمسيني حسن قبل الأزمة على يوميته التي تتراوح ما بين 30 - 50 شيكل، بينما لا تزيد اليوم عن 15 شيكل وأحيانًا كثيرة أقل من ذلك، ما اضطره للعمل ضمن مكتب تاكسي خاص بالطلبات. وكثيرًا ما حدث أن يستقل ركابٌ سيارة حسن دون دفع الأجرة، وهو يعلم أنّهم لايملكون مايدفعونه، "فيتظاهر بنسيانهم كي يحفظ عليهم كرامتهم" كما يقول، مضيفًا أن ركابًا آخرين قبل الصعود يخبرونه "معيش شيكل بنفع توصلني"، فيوصلهم إن كان خط سيره يماثل طريقهم.

بينما يُوضح السائق سامي الكحلوت لــ الترا فلسطين أنّ تأخير صرف رواتب الموظفين وشيكات الشؤون أو تقليلها يوازيه شحٌ كبير في حركة التنقل للمواطنين، وهذاما لُمس خلال الأشهرالأخيرة بشكل ملحوظ.

ويستغرب الكحلوت من وجود عدد كبير من الناس في شوارع حيوية وطويلة جدًا يمشون على الأقدام، وكأنهم اعتادوا الوضع أو"بطلوا يحسّوا بحالهم" على حدّ تعبيره. وحين سؤاله لهم "وين؟ طالعين؟" يُجيبونه "لا باص 11"، وهكذا أصبح من النادر جدًا الحصول على يومية مقبولة، "لأنه في معظم الوقت تسير السيارات دون حمولة كاملة".


اقرأ/ي أيضًا:

هل انتهت معركة "تكسير العظم" حول كليات الطب في الخليل؟

المحقق الإسرائيلي الخاص وفضيحة الرجل الثاني!

الكنيست يقرّ قانون القومية ونتنياهو: نطبّق رؤية هرتسل