04-سبتمبر-2017

آهٍ من رائحة مناقيش الزعتر والمقلوبة؛ آهٍ من فطير الجَدة الفلاحيّ بالزعتر الأخضر؛ وكعك العيد ومعموله؛ آه من البرازق والجبنة النابلسية؛ آه من كوب زهورات يُهدأ ضجيج يومٍ فات؛ ومن بهاراتٍ ألوانها كلوحةٍ عتيقة؛ آه من طبخات ترجعك من غربة طويلة إلى قريتك المنسيّة.

آه من القدرة والرمانية؛ و"مسخن" يتشرّب زيت الزيتون والسُماق يرغم عصافير معدتك على الزقزقة وكأنك لم تأكل من قبل؛ وماذا عن أقراص الفلافل والملفوف؛ وشرائح الليمون والفستق والزيتون وهي تضفي للطبق فتنة، تمامًا كما تفعل الزينة بعروس؛ هي صورٌ تشبع جوعك لذكريات ومشاعر الماضي؛ أليس الطعام واحدٌ من أعمدة الذاكرة التي يتشارك فيها البشر؟

 "أدركتُ أنّ العدو يسرق أكلاتنا فقررتُ أن أبرز الطعام الشعبي كعمود للذاكرة" 

عبق مُعدات طبيبة الأسنان يلتصق بالفلسطينية سوسن أبو فرحة نهارًا، ومساءً تستسلم للروائح الشهية في مطبخها، والذي فيه تستكشف العالم من خلال الوصفات والقصص المرتبطة بها.

قبل ستّ سنوات تغيّرت حياتها حين أطلقت مدونة للناطقين بالإنجليزية تحمل اسم Chef in disguise؛ وتعني "الشيف المتنكر" فيها تدّون وتصوّر الأطباق التراثية لتحكي بنت مدينة جنين جزءًا من الحكاية الفلسطينية. وقد سبق لها الفوز بميدالية ذهبية في مسابقة للتصوير الضوئيّ في فئة تصوير الأطعمة.

اكتشافٌ قاد لفكرة

قبل زواج سوسن لم يحدث أن طهت طبخةً وحدها من الألف الى الياء؛ فقد انغمست في دراسة طب الأسنان أولًا، ومن ثم العمل لاحقًا؛ وهذا لم يترك لها ما يكفي من الوقت لتطوّر علاقتها بالمطبخ حينها.
في صوتها "روقان" لم تسحقه المشاغل، لاحظتُه بمجرد استهلالها الحديث لـ "الترا فلسطين": "كنت أساعد والدتي في المطبخ وأراقبها باهتمام أثناء تحضيرها لأطباقها المميزة، لا سيما أن أمي تمتلك حسًا مميزًا ولمسة خاصة في الطهو والخبز على حدّ سواء؛ ثم بدأت بتعلّم الطبخ بعد الزواج، وأصبح الانترنت والهاتف صديقاي؛ لم أكن أعرف حينها أنّ رحلتي الخاصة سوف تبدأ".

تبتسم وهي تتذكر تلك المرحلة: "أغلب الطبخ تعلمته من والدتي عبر الهاتف؛ ولأن أمي ممن يمتلكن موهبة الطبخ بالتقدير و"عينها ميزان" كما يقال؛ لك أن تتخيلي كمّ المكالمات التي أجريتها معها في بداية رحلتي لتعلُّم الطبخ، لأعرف بالضبط كم ملعقة تساوي "كمشة" من هذا و"رشّة" من ذاك؛ وكانت دومًا تتحلى بالصبر أمام سيل أسئلتي الذي لا ينتهي".

أخذت سوسن أيضاً تلجأ للإنترنت أثناء محاولتها إتقان هذه المهارة الجديدة؛ وأطلقت شهقة مع أوّل اكتشاف لها لمقدار التشويه والسرقة التي تعرضت لها أكلات المطبخ التراثيّ حين خطر لها أن تبحث عن الأكلات الفلسطينية، فوجدت أنّ معظمها تم تناوله باللغة الإنجليزية؛ وأن عددًا هائلًا من المدونات والمواقع تنسب تلك الأكلات لـلمطبخ الإسرائيلي.

اقرأ/ي أيضًا: "المطبخ الإسرائيلي" المليء بالأكاذيب

تشعر بالأسف إزاء هذه المعادلة فتقول: "في المقابل كان من النادر أن أجد مواقع أو مدونات يكتبها عرب أو فلسطينيون تنسب الأكلات لأصحابها؛ ومن هُنا لمعت فكرة لديّ بإنشاء مدونة من طراز "الطعام الشعبي".

وبشغف جميل أخذت سوسن تشرح: "حتى أكلاتنا لم يتركها العدوّ وشأنها؛ فقاد حملة مدروسة شرسة لسرقتها ونسبها إليه؛ كيف لا وهو لا يدّخر جهدًا في أن يصنع له تراثًا وتاريخًا من العدم".

لم تكتف بالحزن، بل فاضت المسؤولية في أعماقها؛ تتابع الحديث بعد "فاصل تنهيدة": "قصة شعبنا تكتبها أو بالأصح تحرّفها أنامل غير عربية؛ لتختزله تحت مسمى إرهابيين أو متخلفين عن ركب الحضارة؛ وكما يقال إن أسهل طريقة لتنزع صفة الإنسانية عن شعب ما هي بأن تسمح للعدو أن يكتب قصتهم من وجهة نظره". وتضيف: "عاهدتُ نفسي أن أكون واحدةً ممن يكتبون الحكاية بأنفسهم؛ فلا بد للعالم أن يعرف أننا نزخر بالفن والإبداع والثقافة كما كل الشعوب؛ وأننا لسنا قابلين للاختزال تحت أي مسمى".

تعليقات منعشة

لكن لماذا التدوين بالإنجليزية؟ ردّت بمشاعر سيدة يملؤها التوازن والثقة: "أردتُ أن أوصل صورة المرأة العربية لقراءٍ من غير الناطقين بالعربية؛ لأن الصورة النمطية رسمها الإعلام الغربي ناقصة ومشوهة ومحزنة؛ ومع الأسف أنه اختصر قصتنا في جانب واحد فقط".
تتسع ابتسامة سوسن هذه المرّة أثناء الحديث لتكمل فكرتها: "ليعرف الآخرون أن أكلاتنا التي تُسوَّق على أنها إسرائيلية لها جذور عميقة في هذه الأرض؛ فيما نحن نصنعها بإتقان وحب وننقلها من جيل لآخر. وحين لا نتحدى تلك الرواية المُشوهة؛ ولا نقدّم قصتنا الحقيقية للعالم فإننا نساهم في هذه النتيجة؛ كلٌ من موقعه لديه القدرة أن يفعل خيرًا بنقله القصة الجميلة لشعوبنا الحية".

هل تساءل أحدكم أين يكمن سرّ تميّز مدونات الطعام عن سواها؛ ربما هو جانب لم يُلحظ من قبل تخبرنا به سوسن؛ ويتجلى في أن الطعام والذكريات المرتبطة به تجربة إنسانية تتخطى حدود اللغة والمكان؛ قائلةً: "تجدين أن جمهور مدونات الطعام يتابعها من أجل القصص والذكريات التي ينقلها المدون مع كل وصفة بنفس؛ إنه سبب لا يقلّ عن رغبته في معرفة الوصفات".

فكرة المدونة بدأت غريبة ومستهجنة، ثم حققت نجاحًا لافتًا؛ أغلب قُرّاؤها من غير العرب، وحديثًا أضافت صاحبتها العربية إلى جانب الإنجليزية

المدونة التي تقول إنها تركت أثرًا ناعمًا في تجربتها، تحظى بتفاعل كبير، فتقول إنّ لكل تعليق قصته وخصوصيّته وجماله، فهي لا تنسى تعليقًا وردها من متابعة كتبت لها: "لمدة 20 عامًا كانت جارتي العجوز اللبنانية ترسل لنا بين الحين والآخر أطباقًا من "الصفيحة" كلما خبزتها في البيت؛ كبر أطفالي على حب الصفيحة؛ لكنّي لم يخطر لي يومًا أن اطلب الوصفة من جارتي التي توفيت فيما بعد؛ تغمرني السعادة أني أخيرًا وجدت وصفة تطابق ما كانت تحضّره جارتي؛ وحين أحضرّها أتذكرها بابتسامة وادعو لها بالرحمة".

وقد يظن بعضٌ أن مُدونة الطعام لا يلزمها أكثر من مهارة في الطهي؛ وأن تصويره لا يتطلّب أكثر من تصويب كاميرا نحو طبق ما؛ ولكنّ الأمر يسير وفق قواعد واضحة تخاطب بها الهواة بأسلوب أنيق على النحو التالي:

أولًا: زاوية من المدونة لا بد وأن تروي قصتك أو شيءٍ ما يميزك عمن سواك؛ كأن تركزّ على الأكل الصحي أو احترافك لصنع الحلويات أو حبك للأكلات التراثية أو تخصصك في مطبخ معين دون غيره.

ثانيًا: أسلوبك الخاص في الكتابة والتصوير يترك في مدونتك روحًا، ويبني علاقة ثقة مع القارئ.

ثالثًا: ادرس صور المصورين الذين تحب أعمالهم على صعيد نوع الإضاءة ومزج الألوان ونوع الخلفيات المستخدمة.

حلوى "الكريزة" ذكرى

وتشيد بمطبخ بلاد الشام كونه يعد غنيًا بالوصفات المتنوعة التي تعتمد علي توازن جميل بين الخضراوات بأنواعها المختلفة والبهارات والحبوب؛ محاولةً أن تنقل هذا التنوّع من خلال ما تقدّمه؛ وحسب رأيها فإنه يختلف عن الكثير من مطابخ العالم التي تقوم على صنف واحد دون غيره.

ومعايير التغذية الصحية التي تهتم بتوفرها في أطباقها بسيطة جدًا؛ فهي مثلًا تركز على الخضراوات والفواكه ما أمكن؛ وتبتعد عن الأغذية المصنعة المليئة بالمواد الحافظة والنكهات الصناعية؛ متبعة في ذلك كله قاعدة ذهبية مفادها: "كُلما قلّ تدخل الإنسان في الطعام كان أفضل".

ومن أكثر صورها التي تربطها بها علاقة حب؛ هي تلك التي تتضمن وصفة الكعك بالزيت؛ فقد أرادت أن توصل للمشاهد أنها وصفه تراثية، وراق لها استخدام الثوب المطرز والإيتامين "نوعٌ من التطريز" مع خيوط الحرير والإبرة؛ كما استخدمت سلة من القش وصحن من الفخار وصورًا من كتاب "ملكات الحرير الفلسطينيات" بأثوابهن التراثية الجميلة؛ كل تلك العناصر تروي جزءًا من الحكاية.

صورةُ أخرى تتربع في قلبها لوصفةٍ تذكرّها بطفولتها؛ وتستحق أن تُروى: "في السادسة من عمري كان هناك بائع يتجول بـحلوى السميد أو "الكريزة"؛ والدتي لطالما رفضت بشكلٍ قاطع أن نشتري أي شيء من الباعة المتجولين؛ لذا قامت بعدة محاولات لتحضير هذه الحلوى في البيت، ولكنها كانت دومًا تختلف عن صنيع البائع؛ إذ تصر على استبدال الماء بالحليب لجعل الوصفة أكثر فائدة؛ ذات مرة وبعد رجائنا الشديد نادته واشترت لنا صينية كاملة، وحين طلبت منه الوصفة؛ كان لطيفًا وأعطاها إيّاها.

وكي تترجم سوسن فكرةً مفادها أن الوصفة قديمة وتراثية استخدمت صورتين إحداهما لمدينة عمّان في السبعينيات، والأخرى لجدّها؛ مضيفة: "أردتُ لكل من تربى مثلي في عمان أو ببلاد الشام أن يتذكر أيام الطفولة الجميلة، فاستخدمت صينية ألمونيوم لأن الباعة كانوا يستعينون بها في ذلك الزمن؛ واستخدمت الملاقط الخشبية والنايلون لتغطية الصينية في محاولة لأن أوصل الوصفة كما كانت تبُاع وتحضّر".

اقرأ/ي أيضًا: المفتول: طبخة النَّبي سليمان!

في مسابقة التصوير الضوئيّ في فئة تصوير الأطعمة، حظيت سوسن بميدالية ذهبية عن وعاءٍ فيه عصير البطيخ والرمان مع ماء الورد؛ عَنى الفوز لها الكثير؛ توضح: "مدونتي بالنسبة لي هواية وشغف؛ إنها مساحتي الخاصة التي انتزع لها الوقت من جدول الحياة المزدحم؛ أن تمكنني تلك الهواية من الفوز بجائزة دولية فذلك فتح الأفق لأحلام أكبر".

بيتٌ محظوظ

البحث عن الجمال والتفاصيل فيما حولها هو من أهم ما فتحت هذه التجربة عينيها عليه؛ فهي تؤيد مقولة "يجب أن يُدّرس التصوير في المدارس والجامعات لأنه يعلّم الناس أن يبصروا فعلًا"؛ ليس ذلك وحسب، بل تعلمت أيضًا الدقة والصبر والهدوء؛ لأن العجلة وعدم التخطيط يؤدي غالبًا إلى صورة دون المستوى.

في ظل هذه الموهبة، يشارك الأطفال والدتهم الطبيبة، متعة ما تصنعه يداها، فهم محظوظون بصباحاتٍ وأم في قمة الاختلاف؛ حين تحضر لهم وجبات صحية خفيفة متكاملة بشكل يكشف عن أنها رسامة أيضًا؛ ولعل "ستيوارت هارفي" كان يقصد أمثالها حين قال: "الصور العظيمة يلتقطها الفنانون الذين يحملون الكاميرا، وليس المصورون الذي اكتفوا بقرار ممارسة الفن".

اقرأ/ي أيضًا: خبيزة غزة.. لموائد المسحوقين رفيق

ولا تخفي ضحكتها وهي تضيف: إذا سألت طفلاي في أي يوم من أيام السنة: "ماذا نطبخ اليوم؟ سيكون الجواب: يلنجي.. حتى لو كان اليلنجي هو غداء اليوم السابق. هما لا يمانعان أبدًا أن يجلسا لعدة ساعات ليساعدا في فرد أوراق "الدوالي"؛ واختطاف بعضها خلسة خصوصًا إذا كانت الأوراق فيها بعض الحموضة؛ ثم يتنافسا في محاولة لفّ بعض الأوراق، وسرعان ما تبوء تلك المحاولات بالفشل، فيتنازلان سريعًا عن تلك المهمة؛ وينتقلان للتنافس على ترتيب حبّات اليلنجي في وعاء الطبخ بعناية.

"الشيف المتنكر" تحلُم بأن تؤلّف كتابًا عن الأكلات التراثية الفلسطينية وتاريخها في كل مدن فلسطين، توضح عبره كيف حافظت على بصمتها رغم الاحتلال والنزوح و التهجير.

رائحة الزعتر تنبعث من عبارتها الأخيرة في حديثها لـ "الترا فلسطين: "سأمضي في نقل سحر الأكلات التراثية كونها جزء من هويتنا العربية؛ كما الأثواب المطرزة والأغاني الشعبية ونقوش الحناء وحكايا الجدات".


اقرأ/ي أيضًا:

"المعلاق" وجبة الخليل السحرية كل صباح

نكهات عربية فواحة داخل "حصون" غزة

فيديو | "الجريشة".. من البيدر إلى موائد الأفراح