05-ديسمبر-2017

ما إن يحلّ الشتاء في غزة؛ حتى يُشاع ذِكر الكنافة، لكنها ليست كتلك النابلسية الشهيرة بحشوة الجبن العكّاوي المطاطية؛ فلأهل غزة كنافةُ أخرى يُقال إنكم لن تجدونها خارجها، وهي الكنافة العربية أو الغزاوية.

فخلف ألواح الزجاج الكبيرة لمتجر "أبو السعود ساق الله" الشهير بحلوياته، يعمّ الهدوء إلا من طقطقة قاطع الكنافة المعدني، وثرثرة زبائن هاربين من برد الليل، أو فشلوا في مغافلة عبق امتزاج السمن والقطر الحار على الرشة الكرويّة والسكر والسّميد وحبيبات الجوز، فمقابل خمسة شواقل (1.5 دولار) يمكن الاستمتاع بطبقٍ صغير من تلك الحلويات.

الكنافة الغزاوية لا تشبه نظيرتها النابلسية في مكوناتها، وصناعتها أكثر صعوبة، ويعتقد صانعوها أن أصلها يعود إلى عهد الصحابي علي بن أبي طالب

المتجر الواقع بالقرب من المجلس التشريعي بالمدينة، بدأ مع سلسلة متاجر ساق الله عملها منذ (121 عامًا) تقريباً، فيما يصعب تحديد بدء صناعة تلك الكنافة، لكن محمود ساق الله (59 عامًا) يعتقد أن تلك الوصفة تعود لزمن الصحابي عليّ بن أبي طالب، حينما كلّف مجموعةً من الباحثين بابتكار حلوى طيّبة المذاق، حتى توصلوا إليها بعد أن مزجوا الدقيق والسكر والسمن والقرفة والسميد وطهوها بمقادير محددة، "لكنها كانت أشد حلاوةً عمّا هي عليه الآن" كما يفترض ساق الله.

اقرأ/ي أيضاً: الكنافة حين تعطي للمدينة شيئاً من مذاقها

صعوبة صنع هذه الكنافة النادرة الانتشار هو ما يجعل منها طبقًا استثنائيًا، فحتى أهل غزة لم يُحسنوا إعدادها في منازلهم رغم حبهم لتجربة كل شيء، "فهي كعود المُطرب، بحاجة إلى معايرة الأوتار شداً وارتخاءً، وأصابع تُجيد العزف وحنجرةً تصدح بالغناء، وذاكرة تحفظ الكلمات" يقول ساق الله لـ"ألترا فلسطين"، ذو الأصول الكرديّة.

تلك الصعوبة في الإعداد لم يمنعها من مغادرة القطاع، لكنها غادرت على شكلها الجاهز في عبواتٍ بلاستيكية محكمة الإغلاق، لتُهدى للذوّاقة في العالم العربي من الذين كانوا يسافرون من غزة وإليها، إلاّ أن الوصفة بقيت حبيسة في ذلك الجيب الساحلي المحاصر منذ عقد.

هذا الحصار جعل من غزة شريطاً بحرياً منعزلاً عن المحيط، وأبقى نكهات وصفاته غير مألوفة حتى للفلسطينيين أنفسهم في الضفة الغربية، وحتى المغتربين من غزة منذ عقود. كما أن التدهور الاقتصادي المستمر لدى الزبائن أوجد ندرة في إمكانية إضافة مكونات أكثر جودة لصالح الطعم، كالزبيب أو القشطة أو الصنوبر الذي يبلغ ثمن الكيلو منه نحو 57 دولارًا.

ومثلها مثل أي صناعةٍ تقليدية، مَرّ خَبزُ الكنافة بطرق تقليدية نجحت جميعها في إكسابها ذلك اللون البني القريب من الشوكولاتة الداكنة، بدءاً من خبزها على الجمر، مرورًا بأفران طينية حتى العام 1987، ثم على مواقد كبيرة تشبه إلى نحوٍ قريب مواقد الغاز المنزلي.

وكونها طبقاً حلواً، فهذا لا يعني أنها مثاليّة للحظات السعادة والفرح فقط؛ فحتى أواخر السبعينات، يؤكد طاعنون في السن أن الكنافة الغزاوية كانت تقدم في الأتراح، وتحديداً إذا كان المتوفى قد ناهز التسعين أو المئة عام، تقديراً لشخصه وما خلّفه من جاهٍ وأبناء ومال وعلم.

كانت الكنافة الغزاوية تقدم في العزاء حتى أواخر سبعينيات القرن الماضي، وتحديداً إذا كان المتوفى قد ناهز الـ90 أو الـ100 عام تقديراً لشخصه

وإلى شمال المدينة في حي الشيخ رضوان، التقينا الحاج بيان اقطيفان (75 عاماً) في معمله الذي تفوح منه ذات الرائحة الزكيّة، فقال إن هذه الكنافة ليست سريعة التلف كمثيلتها النابلسية بسبب قِصر حياة الجبن في الأخيرة، مضيفاً، "يمكن أن تبقى الكنافة العربية شهرًا كاملاً إذا أُحسن حفظها ويعاد تسخينها دون أن تفقد مذاقها".

اقرأ/ي أيضاً: انقراض "بصلية الفقراء" و"الكورن فليكس" التراثي

ويبلغ ثمن الكيلوغرام الواحد من هذه الكنافة نحو 30 شيقلاً (8 دولارات)، فيما تُقدم على شكل صوانٍ كبيرة بزنة خمسة كيلوغرامات في المناسبات السعيدة، كما أنها تعد فاتحةً للشهية بعكس ما يعتقد البعض أن تناول الحلويات قد يسدها، وفقًا لصانعيها.

ويكشف هذا الصانع بعضاً من أسرار هذه الوصفة التي لم يطرأ عليها الكثير من التعديلات "منذ زمن ذلك الصحابي الجليل"، وذلك بسبب صعوبة الحفاظ على قوامها الذي يخلقه مقدار السكر والسمن، وإلا فالمزيج معرض للانهيار وفقدان شكله المماثل لشبه المكعب الهندسي، فيما سيغدو الطعم مجرد خبزٍ مفتت بمذاق حلو"، كما يقول صانعوها.

أما المقادير، فتشمل أولاً تجهيز الرشّة التي تنتهي على شكل كُرياتِ بحجم حبّات الرمل، والمكوّنة من مزج الحليب والماء والدقيق والسميد؛ وتُصب على إناءٍ مسطح على الفرن، وتُقلّب حتى تتماسك وتكون قواماً عجينيّاً بعد تحميره، ثم تُطحن كما اللحم المفروم.

ثانيًا: تُجهّز صينية محترقة بالكامل من القاع الخلفي، وهو ما يمنع التصاق المزيج بالصينية، ثم يُضاف السكر والجوز والرشة المحمّرة المسقّاة بالسمن الحار والقرفة، وتُنثر بشكل دائري ثم يُعاد تحميرها ثانيةً وتحريك الصينية على شكل مداراتٍ بيضاوية، ويتم قلبها رأساً على عقب للحصول على الطبقة الداكنة، لأن تكون وجه الكنافة، وتُختتم برش القطر وحبيبات الفستق الحلبي المقرمش.

وينصح صانعوا هذا الطبق الحلو بعدم التوصية المُسبقة لهذه الكنافة عبر الهاتف؛ فالتعديلات والإضافات ستقود إلى انهيار الشكل الخارجي والحصول على قوامٍ فاقد الملامح، وهو ما لن يرضاه صاحب المعمل أو الزبون، كما أنها لن تكون مستساغة إذا تم حشوها في الخبز مثل الكنافة النابلسية.


اقرأ/ي أيضاً:

الكستناء فاكهة الشتاء.. تعرفوا عليها

الزبيب الفلسطيني.. ما تبقى لكم من حلوى

فيديو | الجريشة من البيدر إلى موائد الأفراح