10-يوليو-2018

"إن كنت تودُّ أن تفهم لبنان، ففكّر فيه على أنّه بيت بدون مالك، الشيء المشترك بين من يعيشون فيه، هو أنّهم موهوبون في الخيانة. هؤلاء السكّان يعيشون معًا منذ ألفي عام مليئة بالقتل والانتقام وسفك الدّماء والثّأر، وفي إحدى اللّيالي العاصفة، يطرق بابهم ضيف غير مرغوب فيه؛ إنهم الفلسطينيُّون. وهم يريدون الدخول بعد أن تعبوا من البحث عن ملاذ. يحدث ارتباك في المنزل، فبعض السكّان قال لندعهم يدخلون الآن، وسوف يرحلون غدًا، والبعض الآخر قال لندعهم يدخلون الليلة، وسنكسب حليفًا ضدّ عدوّي، وبعضهم خشي إغلاق الباب فيقتحموا المنزل، ويعضهم رفض دخولهم. وبعد دخول الفلسطينيين المنزل، بدأ السكّان يدركون الوضع المأساويّ الذي أصبحوا فيه بسببهم، فهم لا يريدون سوى حرق المنزل الإسرائيلي المجاور لهُم".

بهذا الشّرح السّاذج يبدأ المخرج براد أندرسون فيلمه الصادر في عام 2018، "بيروت"، الذي يحكي قصّة أمريكيّة ساذجة كالعادة، مُلخصها المعتاد: أمريكيّ مُختطَف، بطل أمريكيّ يحاول إنقاذه.

فيلم "بيروت" الصادر في عام 2018، الذي يحكي قصّة أمريكيّة ساذجة كالعادة، مُلخّصها المعتاد: أمريكيّ مُختطَف، بطل أمريكيّ يحاول إنقاذه

هناك دائمًا أبطال، ولكلّ إمبراطوريّة أبطالُها المعتادون؛ فإمّا هم أشخاص حقيقيُّون يُستعادوا بين الحين والآخر لمّا تشعُر "أمَّة الإمبراطوريّة" بالتّراجع والهزيمة، كالرئيس الأمريكيّ إبراهام لينكولن، الرئيس الذي يُعزى لهُ الفضل أمريكيًا بتحرير العبيد وتوحيد الولايات الأمريكيّة، بكلمات أخرى: بِسمارك أميركا. وكرئيس وزراء بريطانيا، وينستون تشرشل، الذي يُعدُّ بطَلاً قوميًا بريطانيا قاد المملكة عبرَ العديد من الأزمات التي كادت تُطيحُ بالتَّاج وبالمملكة نفسها، كالحرب العالميّة الثانية. وهم إمّا - أي أبطال الإمبراطوريّة - شخصيَّات مُتخيَّلة، كالبطَل الأمريكيّ، الأشدُّ إثارة للضَجَرِ والسَّأم عبر التّاريخ، من "صائدي الهنود الحمر"، الكاوبوي، إلى "صائدِي الفيتناميين واليابانيين والكوريين"، جنود البحريّة الأمريكيّة!

اقرأ/ي أيضًا: ما هي أحوال سينما فلسطين بعد 9 عقود من ولادتها؟

وفي ظلال الإمبراطوريّة، تنتَجُ السينما كما يُكتب الأدب وكما تُكتَبُ الرِّواية الرسميَّة للإمبراطوريّة. فالرِّواية الرسميّة عندما تتعلَّق بالكاوبوي، وتاريخ طويل من الإبادة المنظّمة والممنهجة والوحشيّة لسكَّان أمريكا الأصليّة، تُصوِّرُ، الرواية الرسميّة، صيّادي البشري أولئك، على أنَّهُم الخطُّ الأماميّ الأوَّل، للدِّفاع عن "حقِّ الإمبراطوريّة" بالوُجود على حساب "البرابرة المتوحِّشين"، أي، بكلمات أخرى: النور مُقابل الظُّلمة، النظام مقابل الفوضى، التحضُّر مقابل الوحشيّة. تلكَ هي قصّة أيّ إمبراطوريّة عبر التّاريخ، وأشدُّ نسخها بشاعة وإثارة للغثيان، النسختَين الأخيرتين، البريطانيّة والأمريكيّة.

في الأعوام القليلة المنصرمة، تمّ إنتاجُ فيلم "Darkest Hour"، ومسلسل درامي من ثلاثة مواسم "The Crown". الفيلم يروي قصّة صعود تشرشل إلى منصب رئيس الوزراء البريطاني إبَّان الحرب العالميّة الثانية، والمسلسل يروي قصّة التّاج البريطاني منذ تولِّي الملكة إليزابيث العرش، وفيه قسطٌ وفيرٌ لاستعادة تشرشل دراميًا، كحامِي للملكة والمُدافعِ عنها. وهناك سرديّة يُظهرُها الفيلم والمسلسل معًا، إصرار تشرشل على ترديدها بشكلٍ دائم، وتبيِّن الرِّواية الرسميّة للإمبراطوريّة ومدى الاقتناع الراسخ لدى تشرشل بها وآخرين في المملكة/الإمبراطوريّة: بريطانيا تمثِّلُ العالم الحر، مقابل الفاشيّة والنازيّة الألمانيّة اللتين هُزِمتا مع انتهاء الحرب العالميّة الثانية. كذلك، يمثِّلُ التَّاج البريطاني، الشَّكل الأسمَى من البناء المجتمعي السياسي للمجتمعات المتخلِّفة البربريّة التي يضمُّها التَّاجُ إليه، كبعض دول إفريقيا وآسيا والجزر الآسيويّة.

تغفِلُ هذه السَّردية الإمبراطوريّة وتسقِطُ استعاداتها الدّراميّة؛ الأجزاء المظلمة من تاريخ الإمبراطوريّة، ومن تاريخ تشرشل الشخصيّ في استعبادِ وذَبحِ الشعوب الأصلانيّة في كلّ بقعة من بقاع العالم. تشرشل، كما يعرفُهُ الأصلانيون، أشدُّ سفَاحِي العالم الحديث بُؤسًا وقسوةً وذكاء، وهو كذلك، من أشدِّ العقول الغربيّة تطرفـًا في استشراقه ونظرته التفوُّقيّة على الأصلانيين. هذا ما يعرفهُ الأصلانيون عن تشرشل، وما لن يُغيِّرهُ عمل دراميّ مهما كان عبقريًا في استعادة تشرشل كعجوز بذيء اللسان، وقائد كاريزماتيّ فذّ دائمُ الثّمالة، ولكنّه قريب من شعبهِ قلِقٌ على مستقبل "الإنسان المتحضَّر"، طبعًا سيكون ذلك الإنسان المتحضِّر هو البريطانيّ، فحتى الفرنسيين لا يقنعون تشرشل كأقران للبريطانيين.

فيلم "بيروت" السّاذج، يُظهرُ العرب ببدل عسكريّة ممزّقة وألثمة تغطّي نصف الرؤوس، وبتعبيرٍ واضح: إنّ غير الأوروبيّ (الأوروبيّ هنا، تشمَل الأمريكيّ بالطّبع)، هو إنسان فوضويّ

وكحالِ فيلم "بيروت" السّاذج، الذي يظهرُ فيه العرب على السّواء، فلسطينيين أم سوريين أم لبنانيين، ببدل عسكريّة ممزّقة وألثمة تغطّي نصف الرؤوس، صُراخ دائم هنا وهناك، أطفال بثياب ممزّقة بالكاد تغطِّي أجسادهم العارية، وبتعبيرٍ واضح: إنّ غير الأوروبيّ (الأوروبيّ هنا، تشمَل الأمريكيّ بالطّبع)، هو إنسان فوضويّ، قريب إلى البربريّة، دائم الصراخ على شكل همهمات يتقصد الإنتاج السينمائي جعلها تبدو كذلك وإن كانت كلمات حقيقيّة، يُهملُ النطق الصحيح للكلمات واللغة عمومًا، فيجعلُها شيئًا آخر من أشياء غير الأوروبيّ غير المهمّة والبربريّة، بحيثُ تُنطَقُ وكأنها شَيء بِدائيّ الصُّنع لا يُعبِّر عن شيء، بخلاف اللغة الانجليزيّة التي تُنْطَقُ بِوضوحٍ شديدٍ وبنبرةٍ حادة تَطغَى في مجرى التصوير على تلكَ اللغة البدائيّة، سواء كانت عربيّة أم فيتناميّة أم يابانيّة. وللُّغة دور أساسي لما توظف بحيث تدلّلُ وتُشيرُ إلى فُروق حضاريّة تفوقية للمُتلقي؛ فكل من هو غير أوروبي، هو "كاليبان" شيكسبير، ذلك الهمجيُّ على شواطئ الأطلسيّ الذي يلتقي بمجموعة من المستشكفين الأوروبيين، يبدأ بأن "يكون" لما يبدأ "بتعلّم" اللغة الأجنبيّة. وبنفسِ الطّريقة، يظلُّ الأصلاني/ العربي، في حالة فيلم بيروت أو مسلسل التاج البريطاني، شخص يهمهم وغير مفهوم، حتّى يبدأ ينُطقِ الإنجليزيّة فجأة، ولكن، بلهجة ركيكية مرتبكة، إلى ذلك الحين، يتوقّف العربيّ عن أن يكون عربيًا وكذلك الأصلانيّ، ولكنّه لا يُصبِحُ إنجليزيًا أو أمريكيًا، بل يَصِيرُ مرآة الأمريكيّ والإنجليزيّ لنفسهِ المتفوّقة، فما عاد حتّى بربريًا، بَل هو مجرد صَدى لوجود الأوروبي في العالم.

اقرأ/ي أيضًا: 7 أفلام فلسطينية وصلت العالمية

من النّادر أن تجد فيلمًا أوروبيًا، يروي رواية منصِفة عن الأصلانيين أو غير الأوروبيين، كما من النّادر أن تجد فيلمًا أمريكيًا أو إنجليزيًا على وجه التحديد، يروي رواية منصِفة عن نفسه. ففي مقابل فيلم "الساعة الأشدّ ظلمة"، ومسلسل "التّاج" الذي يستعيد تشرشل كبطل قومي، في ظلّ التدهور السياسي والتراجع الحادّ لنفوذ بريطانيا في العالم، هناك فيلم "Downfall"، الألماني، الذي يروي قصة أيّام هتلر الأخير، لا كبطل قومي ولا كمجرم، بل كما هو، إنسان أوّلاً، مجرم ثانيًا، نازي ثالثًا، متخبّط رابعًا، متوهم خامسًا، أي أنّه يروي قصّة هتلر كما هِي، ليس غارقًا في مستقنع الذنب النازيّ الذي أصرّ العالم على إغراق ألمانيا فيه لعقود طويلة، وليس خائفًا من عرضِ قباحة التّاريخ كما هي، بخِلاف الإمبراطوريّة البريطانيّة.

في ظلّ هذا كلّه، ليس غريبًا أن يُشكِّل فيلم "بيروت"، مجرّد سذاجة أمريكيّة أخرى في النّظر إلى العالم، وإلى القضيّة الفلسطينيّة تحديدًا، واختصار الفلسطيني في صورة الخائن المرتزق الإرهابي، لغته ركيكة، همهمات هنا وهناك، بدلات عسكريّة ممزّقة، ووصف ساذج لأكثر القضايا  تعقيدًا ودمويّة في تاريخ المنطقة (الحرب الأهليّة اللبنانية)، فهو في النهاية، مجرّد قصة بطل أمريكي ساذج لا أكثر. ولكنّ سياقات إنتاجه وخلفيّاته الاستشراقيّة بعد عقود على كِتاب "الاستشراق" لإدوارد سعيد، ونقاشات المثقّفين الأصلانيين من كلّ العالم ومساهماتهم النّظرية، هي المهمّة، كإشارة إلى أن شيئًا لم يتغيَّر بعد كلّ هذه المساهمات النّقدية لتاريخ الإمبراطوريّة والاستعمار.


اقرأ/ي أيضًا:

استعادة كمال الجعبري ليافا.. عدالة سينمائية

"واجب" من أزقة الناصرة إلى أبواب الأوسكار

بماذا تغنى أجدادنا أيام "البلاد"؟