08-يناير-2017

يعتبر فيلم "جرافيتي" للمخرجة فداء نصر، نموذجًا دالّا لشعار طالما ردّدناه ولم نترجمه إلا قليلا، أي أنسنة قصص الفلسطينيين وتجاوز التعامل مع الشهداء كأرقام، وهو بذلك يمكن تقديمه بصفته عملًا فنّيًا مبدعًا حاول التصدي لمادة صحفية تقليدية ربما نقلتها مخرجة الفيلم فداء ذاتها التي تعمل مراسلة لفضائية إخبارية، لكنّها في عملها الفنيّ تجازوت المادة الصحفية وكل ما نشرته وسائل الإعلام الأخرى حول ثلاث شخصيات فلسطينية شابّة.

فيلم وثائقي قصير (16 دقيقة)، من النوع الذي يهزُّ الأعماق، بلا خطابات عاطفية أو دموع تستجدي التعاطف

هناك الشاب الجميل رائد جردات من مدينة الخليل الذي قرر في لحظة عاطفية الانتقام لمقتل طالبة المدرسة دانيا إرشيد من نفس المدينة على يد جندي إسرائيلي، وهناك لوحة "الجرافيتي" التي تزيّن أحد شوارع ذات المدينة.

يقدِّم الفيلم كل المعروف من هذه القصة ولا يمنحه البطولة أبدًا، بل يحاول الرجوع إليه ليجعلنا نرى ما لم نره، وما لم نحس به، فيمنح البطولة لشخصية مجهولة وغير معروفة إلا من رسم جرافيتي يزيّن شارعًا في مدينة الخليل تبوح من خلاله كاتبته بحقيقة مشاعرها تجاه "رائد جردات" الشاب الذي حاول الانتصار لفتاة استشهدت على حاجز إسرائيليّ أثناء ذهابها لمدرستها.

اقرأ/ي أيضًا: انتبه.. عدوك المجرم نظيفٌ جدًا!

الوجع العميق

لنكون إزاء فيلم وثائقي قصير (16 دقيقة)، من النوع الذي يهزُّ الأعماق، بلا خطابات عاطفية أو دموع تستجدي التعاطف. إنّه فيلم ذكي وعميق، مدروس ومحسوب بدقة، مشغول باحتراف ووفق رؤية عميقة وفهم بالغ للصورة ومكامن قوتها، وكيف تسرد بصريًا ثلاث قصص متداخلة بطريقة مذهلة وهادئة، ما تلبث أن تتصاعد لتكتشف القصة برمتها، يحبس الأنفاس ويجعل الدمعة تفرُّ من العين، فيما الوجع يكمن عميقًا عميقًا.

تنقّلت كاميرا المخرجة بين قصص ثلاث، رائد الشاب الجميل والمبتسم دومًا فارع الطول والممتلئ برجولة آخّاذة، وعائلته، تجولت بينهم في جلسة مكلومة مليئة بمشاعر الفقد من دون أي محاولة استنطاق مبتذلة للأم أو الأب أو الأخوة.

مفارقة الحب تحت الاحتلال، حيث يتداخل الوطني بالاجتماعي بطريقة شائكة، وتتداخل المصائر لأفراد فقدوا قدراتهم على الحياة

بهدوء شديد تعرّفنا على مكانة رائد بين عائلته، وبحُب لذة الاكتشاف؛ تحرّكت الكاميرا الحذقة وكأنّها عاشقة تفرّست صور حبيبها الشهيد الجميل، "عاثت" في ألبومه المليء بالصور الشخصية "فضحًا" جميلًا لكمية هائلة من مشاعر مكتومة فضحتها ذات الكاميرا عبر لوحة الجرافيتي المليئة بالمشاعر البريئة والبسيطة التي نقلت عبر كلمات كانت الأكثر صدقًا.

الكاميرا المتقنة، المتسللة، زارت منزل دانيا ارشيد وطالعتنا مشاهد من حياة العائلة التي خسرت أحلام ابنتهم بفعل جنود يحملون البنادق ومهجوسين بالخوف، من دون أي حوار أو حديث أيضًا.

زاد الفيلم على ذلك بمشاهد أرشيفية لتزويج الشهيدين (رائد ودانيا) المليئة بالدموع والتصفيق، لكنّه كشف أوراقه عندما زوّدنا بالحكاية البسيطة والمؤثرة والمتمثلة في أن صاحبة الجرافيتي المجهولة قدّمت في لوحتها رسالة حب متأخِّرة للشهيد رائد، رسالة معلنة هي الأولى والأخيرة: "ليش تركتني ورحت يا رائد؟ ليش رحت لغيري؟".

إنّها مفارقة الحب تحت الاحتلال، حيث يتداخل الوطني بالاجتماعي بطريقة شائكة، وتتداخل المصائر لأفراد فقدوا قدراتهم على الحياة لأسباب مختلفة أبرزها الاحتلال ذاته الذي يضع حدًا لحيوات البشر في أيّ لحظة.

خسارة ثقيلة

سيُدرك مشاهد الفيلم أنّه أمام خسارة ثقيلة جدًا سرّبها الفيلم خلسة وبمهارة، خسارة غير مرئية، فهناك خسارات مرئية تكتب لها المراثي ونحزن لها وتكتب عنها الصحف وكل وسائل الإعلام، ويساندها المجتمع بكم القيم التي تكتنفه وتجعله يعاضد ويتعاطف ويدعم ويساند بعضه بعضًا، لكنّ الفيلم قدّم خسارة ثالثة غير مرئية عبر لوحة "جرافيتي".

الفيلم منح البطولة لشخصية غير معروفة، فبدا كأنه انتصار للبعيد، للمقصى، للحب غير المصرّح به

الفيلم منح البطولة لشخصية غير معروفة، فبدا كأنه انتصار للبعيد، للمقصى، للحب غير المصرّح به، وهو أيضًا يحرِّضنا على طرح أسئلة تتعلق بالخيارات التي ينتجها الواقع، لإعادة ترتيب النتائج فيما لو تغيّرت الوقائع، فمثلًا ماذا سيحدث لو صرحت فتاة الجرافيتي بحقيقة مشاعرها لرائد بعيدًا عن عُقد المجتمع ومحرّماته. فالحب المكتوب على الجدار بدا كأنّه الحب الأكثر نبلًا، والخسارة الأكثر وجعًا، وطريقة التعبير هي الأشد تأثيرًا، فالكاميرا المتربصة لآخر ذرة حب وإعجاب قدمت الجدارية كلمة كلمة وجملة جملة من قصيدة حقيقية هي مشاعر فتاة غير معروفة تجاه شاب أصبح شهيدًا، وزُوِّج وطنيًا من فتاة أخرى لا يعرفها لكنّه حاول الانتقام لها، على أمل أن يلقاها في الجنة.

لعبة أو تمربن "ماذا لو؟" هي نوع من التدريب الذهنيّ المستحق، لن يفيد الضحايا الذين رحلوا، لكنّه يفيد الشباب في التفكير فيما يفعلونه ويعتقدون أنّه الفعل الصواب، وطبيعة الخيارات التي يمتلكونها وتلك التي لا سيطرة لهم عليها.

طافح بالأسئلة

المخرجة تقدم فيلمًا قصيرًا طافحًا بالأسئلة التي تقود نقاشًا أصيلًا حول الحالة الفلسطينية اليوم، فعل الاستشهاد في ظل هبّة القدس الحالية، قدرنا وقدرتنا على صنعه، التعبير عن مشاعرنا، الحياة في بيئة مليئة بأسباب الموت والغياب، وكُلّها أمور يعتبر التفكير فيها واجب، كونها تجعلنا ننظر للمستقبل ونناقشه عبر طرح فنّي إبداعيّ.

هناك دلالة أخيرة يقدمها الفيلم بطريقة طازجة وتتمثل في أن جهد "شاشات" وهي الجهة المنتجة للفيلم، والتي تقوم على مهرجان سينما المرأة في فلسطين منذ سنوات لم يضع أبدًا، ومن راقب تجربة المخرجة نصر سيعي ذلك تمامًا.

اقرأ/ي أيضًا: بالصور: قرية كور.. وحنين لأيّام "عزّ"

المخرجة أيضًا وضعت قصتها البسيطة عبر تعليق صوتي أخبرنا بعملها التلفزيوني وبكونها فاقدة للسيطرة على حياتها التي تخاف أن يضع جندي حدًا لها لأبسط الأسباب، هي نموذج لحال الشباب الفلسطيني الذين تقف حيواتهم أمام واقع صعب يمتلك فيه المحتل كلّ القوة لوضع حدٍّ لها بسبب وبدون سبب.

إنّ تغييرًا مهما كان، سيحدث بفعل هذا الفيلم، ويتمثل في أنه يشجع فتيات على التعبير عمّا في خواطرهن من مشاعر وأحاسيس، فطالما نعيش حياة لا ندرك متى تتوقف بنا، علينا أن نهجم عليها. الفيلم بحد ذاته هجوم على الحياة من ناحية كشف مشهد بسيط منها، تقديم قصة واقعية بأبعادها الثلاثة، فالخسارات كي لا تتضاعف علينا التفكير فيها، ولن يكون ذلك ممكنًا من دون رؤيتها مُجسّدة.

هذا التجسيد حمله عدم الكلام من أيٍّ من أطراف الحكاية، وهو خيار فني عبّر عن جوهر رسالة الفيلم، فالبطلة غير المعروفة، فاقدة الهوية والقدرة على الحضور أو النطق، انعكست على شخصيات الفيلم كله، التي قدمتها المخرجة صامتة كي لا تسرق من فتاة الجرافيتي بطولتها السينمائية، وفي هذا محاولة من إنصاف.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

"ببغاء" فيلم يحكي الوجع الفلسطيني

"رجل يعود".. عن المخيم المقبرة وانتحار البشر

"غزة سِرف كلوب" عن الأحلام التي تحفر لتحقق ذاتها