28-مايو-2017

عندما نُفكّر في أشياء تمسّكنا بها، ورافقتنا  منذ البداية، نظل تائهين بين السؤال والجواب، وندور في دائرة هي في الأصل تدور فينا. إنّها دائرة الموت الذي أصبح قائمًا بوجودنا. الموت والتفسيرات المستمرّة لما بعده، تمامًا كالقضية الفلسطينية التي تدور بنا، ولا حلّ لها.

"يجب علينا قتل قيادتنا قبل أن يقتلونا"، قرار مجنون، ولكنّه الحلّ المثالي لنا كفلسطينيين، نعم، من الواجب الحديث عن دحر الاحتلال، ومقاومته أوّلًا، ولكن هذا الاحتلال يتلاعب بنا بأدواته منذ قيامه، ومنها القيادات الفلسطينية. بصريح العبارة علينا ألّا نجعل أفكارنا لحظيّة ونرجع إلى نفس النقطة ونكرر ذات الخطأ، يجب أن نُنهي هذه البشاعة!

لقد تشكلت فينا هشاشة معرفيّة بقدر أكبر وأصعب مما نتخيل، وعقولنا المفكرة انحازت لهم بشكل غير مسبوق، وجعلوا انتماءنا ليس للوطن إنما فقط لأهوائهم

لقد تشكلت فينا هشاشة معرفيّة بقدر أكبر وأصعب مما نتخيل، وعقولنا المفكرة انحازت لهم بشكل غير مسبوق، وجعلوا انتماءنا ليس للوطن إنما فقط لأهوائهم، وكل رجل جديد وامرأة جديدة في تنظيم ما، يجب أن يتم جدولة أنشطته للعمل على نصرة القائد الفانتازي!
 فلندخل على الرزنامة البسيطة الفلسطينية القريبة منا: مكانة فلسطين التاريخية والدينية، فلسطين في حرب العالمية الأولى، المشروع الصهيوني، الحركة الوطنية الفلسطينية، ثورة فلسطين الكبرى، نكبة وحرب 48، حركة فتح، نشأة منظمة التحرير، نكسة وحرب 67، الهوية الفلسطينية، الانتفاضة الفلسطينية، حركة حماس، أوسلو، السلطة الفلسطينية، الجدار العازل،  الانقسام، الاستيطان، ... إلخ)، التسلسل في أبعاد القضية الفلسطينية ما زال يتزايد لصالح الكيان الإسرائيلي، وانتقلنا من الكفاح المسلح والتحرري إلى التسوية السلمية "التسليمية" لدولة إسرائيل. يا للروعة!

العلاقة الغريبة بموضوع تحديثات هذه الرزنامة البسيطة أن قادتنا يتنافسون على مساحة جغرافية معيّنة، وعلى لحظات لنيل السلطة، وانهارت القيمة المتواجدة عند كل الفلسطينيين ألا وهي "التواضع"، فكلٌ يتغنى باسمه وموقعه وميثاقه وبما صنع، وفي رواية أخرى "انتصرنا بالحرب، قمنا بتدويل القضية..".

نتيجة كل هذه المعطيات والمحددات المحصورة في عقولنا - صغارًا وكبارًا - أن أصبحنا نعاني من هشاشة المعرفة، ويجب أن نجتهد لهم، لا لأنفسنا. فلا مشروع نهضوي هنا أو هناك، ولا حداثة في الخيارات المتاحة، وللأسف ما يحدث في الثانية الأولى من حياتنا كمرحلة سياسية، تنعكس على قضيتنا وعلى أولادنا، فأصبح الرجل المقبل على الزواج يفكّر بالهجرة، وإن تزوّج فلا يريد ابنًا او بنتًا على هذه الأرض.

في القرن الثامن عشر ظهرت حركة فنيّة ردًا على الثورة الصناعية، وتجسدت في الفن البصري والموسيقي والأدب، وكان لها تأثير على الساسة لما أحدثته من تغيير جذري في النفس البشرية.

قال روسو: "علينا أن نترك الطفل يدرج وحده في الطبيعة ليكتسب خبراته بنفسه"، فعلى الصعيد الفلسطيني فإن الأب الفلسطيني لا يُخرج أبناءه من البيت خوفًا من الأوضاع الفلسطينية الداخلية. وكلما ظهر شيئ غريب، يلوّث صورتنا وهويتنا، وإن صنعنا الحداثة في تراثنا يقولون لنا هذا "كفر وفجور".

تاريخنا الحديث هو سجلّ اختيارات قادة جدد أو انتصارات وهمية أو أرقام، ولكن هناك تاريخ فلسطيني أكبر وهو تاريخ المهمشين واللاجئين

نعم، لدينا فلسطينيين أقوى مما يتخيله عاقل في الحياة، ويكفي ما قالته الوزيرة الإسرائيليّة جولدا مائير "إن اغتيال إسرائيل لغسان كان أشبه بالتخلص من لواء فكري مسلح، فغسان بقلمه كان يفعل ما يوازي فعل ألف فدائي بعتادهم الكامل"، وبجانبه العظيم باسل الأعرج.

الدبلوماسية الفلسطينية وكأنها "زومبي" بنكهة كوميديا، أو إعلان قطاع غزة إقليم متمرد، أو نفوذ دحلان في غزة، أو نسخة مكة مرة أخرى، أو وثيقة حماس الجديدة، أو المشاركة الساذجة في إضراب الأسرى، وغيرها من السلوكيات الجديدة سوف تشكل حقبة أخرى من التخلف، وسوف تضعف الكل الفلسطيني بكل ما نملك من قوة، فلا يعلم أي فلسطيني ما سيحدث وقد سئم الجميع من الجميع، يكفينا تضامن ذو طابع تكليفي وكأنه موضة الحدث، وفي كل حل يعملون عليه فإنهم يبتكرون نوعًا من الرجعية السياسية المُتعنتة، وما أجمل عنادهم وكأنهم أمر الله على الأرض فيرون أنفسهم الشعب والوطن والهوية والأرض.

مصطلح تسحيج أو سحيج، هو الشخص الذي يرى الحقيقة الصحيحة ويتغاضى عنها، وذلك لعدة دوافع ( الشهرة – الولاء للقائد – المال – التسلق السياسي)، فلنتوقف قليلًا، لأن معضلة الأمر مدهشة للغاية في أحداثنا المعاصرة.
هذه الظاهرة أصبحت معدية وبشدة، ومن شدة قذارتها وصلت لمن كانوا يساندون المهمشين من الشعب، بل وإنهم يسمون أنفسهم أكاديميين وخبراء إعلام، يا للهول! يجب أن ننهي هذه الظاهرة من جذورها المتأصلة، ولا ندافع عن المصابين بها.

الحلول الممكنة تتطلب بلورة استراتيجية للعمل السياسي غير الهادم لحقوق الفلسطينيين، والغير  منحاز  باطنيًا لسيناريوهات الصهيونية الهادفة، فنحن الشباب مؤسسات علمية بها أدوات تكنولوجية توازي خيالنا العلمي، نحتاج إلى صندوق مالي يهدف لبناء مشاريع الشباب، وليس أفواجًا للتزاوج ثم الجلوس على أرصفة الطرقات، نحتاج دائرة تحمي حقوق نسائنا، وليس مشروعًا لحظيًا لا يهتم إلا بأناس أرستقراطيين.

الثورة ليست بحاجة إلى احتياجات تكفي وتسد متطلبات الشعب الحياتية، إنما تحاول التمرد على التعيين، يجب أن نهيّئ عقولنا إلى الوعي التاريخي. صورة القادة البانورامية قتلت شعبنا.


اقرأ/ي أيضًا:

نقد التضامن ما بين المحرقة والخيمة

الكبت الجنسيّ ومعاركنا المؤجّلة

فلسطينيون يغلقون شوارع فلسطينية.. ما وراء المشهد