04-نوفمبر-2018

كثيرة هي الأسباب التي أدّت إلى موجة رفضٍ شاملة وواسعة بين الفلسطينيين في الضفة، استبقت تطبيق قانون الضمان الاجتماعي إجباريًا مطلع شهر تشرين ثاني الجاري، لكن سببًا أساسيًا يقف وراء هذه الأسباب بمجملها، بل وربّما يعتقد الرافض للقانون، أنّ وجود هكذا حكومة من الطبيعي أن يؤدّي إلى إصدار هكذا تشريع؛ وهو انعدام الثقة بالمطلق في السلطة والحكومة من جهة نزاهة مسؤوليها وأمانتهم في التعامل مع أموال المواطنين، ومن جهة أخرى في بقاء هذه السلطة في مكانها حتى يصل المرء إلى سنّ التقاعد ليقبض ما كان يدفعه طوال ثلاثين أو حتى أربعين عامًا.

من يضمَنُ أولئك الذين سيتعاملون مع الأموال المجبيّة بموجب القانون؟ وسؤال الضمان هنا، هو سؤال عن الاختلاس والنهب. والثاني، من يضمَنُ بقاء السلطة نفسها في المستقبل؟

ما أن تنتهي جلسة نقاش صاخبة تتناول البنود الكارثية لقانون الضمان، حتى يلقي أحدهم بسؤالين تهكّميّين حول المستقبل والحاضر: من يضمَنُ أولئك الذين سيتعاملون مع الأموال المجبيّة بموجب القانون؟ وسؤال الضمان هنا، هو سؤال عن الاختلاس والنهب. والثاني، من يضمَنُ بقاء السلطة نفسها في المستقبل؟

اقرأ/ي أيضًا: بنود "كارثية" في قانون الضمان الاجتماعي

كأنّ الفساد جزءًا لا يتجزأ من منظومة عمل السلطة، وهو فسادٌ معلنٌ من دون شك، ولا يشكّ فلسطينيٌ واحدٌ في وجوده. وإن كان مشروع السلطة الفلسطينية في العقد المنصرم هو محاولة انتزاع اعترافٍ دوليٍ من العالم بفلسطين كدولة، ورغم تلك الاحتفالات السخيفة التي كانت تصطخب في دوار المنارة بين العام والآخر عند الذهاب إلى الأمم المتحدة؛ يبدو في النهاية أنّ أحدًا لا يصدّق هذه "السخافات" كلّها، والجميع على ما يبدو، يوقنون بحتميّة زوال السلطة الفلسطينية بمؤسساتها وهيئاتها الحكومية ومناصبها الوزارية والأمنيّة بالمجمل في المستقبل القريب.

الآن يفكّرون في أموال التقاعد

في باب الإدارة العامة؛ هنالك الفساد، الرشوة، المحسوبية، سيطرة الحزب الواحد ومن والاه من الأحزاب الصغيرة على مجمل المناصب العامّة والوظائف الحكوميّة وحتى غير الحكومية. في باب المسؤولية الوطنية؛ هنالك التنسيق الأمني، التفريط في المشروع الوطني، التطبيع المعلن مع الكيان الصهيوني، الانقسام والسيطرة الأمنيّة القمعية في الضفة الغربيّة.. إلخ.

والآن، يفكّرون في القدوم إلى أموال التقاعد. هنالك حدّ معيّن على السلطة والمسؤولين الحكوميين أن يدركوه عندما يفكّروا في الاستيلاء على أموال التقاعد؛ وهو الحدّ الفاصل بين لا مبالاة المواطن وبين سخطه وكبته وحنقه على الحكومة. بالنّسبة له، يبدو أنّ الشعار اليوميّ لحياته، هو للبيت/ الأرض ربّ يحميها ويحميه، أمّا بيته الخاصّ فهو من صُنْعِهِ الخاص ومن كدّ عرقه وليس هنالك من يحميه غيره هو. وعندما تفكّر الحكومة في الاستيلاء على أموال التقاعد الخاصّة به، وإرغامه فوق ذلك على فعل ذلك، بينما هو ليس لديه أيّ مقدرةٍ على الرفض، وفي الآن ذاته لديه كلّ الهواجس المبرّرة في أنّ ماله الخاصّ الذي كان يجب أن يكون خطّة حياة تشعره بنوع من الأمان الاجتماعيّ وتغطّيه عند تقدّمه في السنّ؛ عندما يحصل هذا كلّه على السلطة أن تعيد التفكير مرّتين فيما تقوم به.

هنالك حدّ معيّن على السلطة والمسؤولين الحكوميين أن يدركوه عندما يفكّروا في الاستيلاء على أموال التقاعد؛ وهو الحدّ الفاصل بين لا مبالاة المواطن وبين سخطه وكبته وحنقه على الحكومة

لقد فشلت السلطة من قبل في اختبار الدولة في مواقع كثيرة؛ فشلت في المجتمع الدولي، فشلت على مستوى المصالحة الوطنية، فشلت على مستوى المفاوضات، فشلت في قمعها الأمنيّ وقبضتها الأمنية المسلّطة على رقاب الصحفيين والمقاومين وغيرهم؛ وكان المواطن يشاهد ويتفرّج ويعتقد أنّ هنالك في القضايا الكبرى ربّ يحمي البيت ومنطق تاريخ لا بدّ فيه من الزوال ومن المحن، ولكن ماذا تكون السلطة غير قوّة أمر واقع بلا أيّ نوع من أنواع الشرعيّة وتكاد أن تكون عند استيلائها على المال الخاصّ، قوّة أمر واقع ناهِبة للمال الخاص؟

من يضمن بقاء السلطة نفسها؟

"ولكن الأردن دولة! أمّا هنا، فهي في أفضل أحوالها أجهزة أمنية لا أكثر". ذلك كان تعليق أحدهم على تعليق آخر يحاجج بضرورة وجود قانون الضمان الاجتماعي كذلك الموجود في الأردن.

اقرأ/ي أيضًا: رافضون للضمان: احنا الطبقة الي ما بتركع

ليس فساد السلطة المعلن وحده ما يأجّج انعدام الثقة في مشروعها القانوني الأخير؛ وفي مشاريعها القانونية عمومًا، بل انعدام الثقة في بقائها. وإن كان الفلسطيني العادي يعرف ذلك، فلا بدّ أن الحكومة ومسؤوليها والسلطة ومسؤوليها، يعرفون ذلك أيضًا، بل ربّما يعرفونه بشكل أوثق من غيرهم؛ أنّهم ببساطة لن يعودوا موجودين في المستقبل القريب.

هنا قد يبدو الأمر مثيرًا للسخرية. العديد من المؤسسات التعليمية - على سبيل المثال - أكثر عراقة وقدمًا من السلطة نفسها، ولدى الناس، وطُلّاب هذه المؤسسات وأساتذتها إيمان عميق بأنّ هذه المؤسسات ستبقى في المستقبل القريب والبعيد، أمّا السلطة فلا. الشركات كذلك، مؤسسات المجتمع المدني، ومعظم المؤسسات الكبرى والشركات التي تخطّط السلطة لفرض قانون الضمان الاجتماعي على موظفيها وعامليها وعليها هي أيضًا؛ هي في الوعي الجمعي باقية أمّا السلطة فزائلة.

ما المنطق الذي عبره تجري عملية تبرير الاستيلاء على أموال المواطنين الخاصّة؟ إنّه منطق واحد وحيد، وإن كان غير معلن عبر يافطات الاحتجاج، فمن المؤكد أنّ السلطة ومسؤوليها يعرفونه ويقرأونه في عيون المحتجّين؛ إنه منطق الاستيلاء بقوة أمر الواقع حيث لا يوجد أيّ مؤسسات قانونية تشريعية أو قضائية بإمكانها إيقاف الحكومة ومشاريعها القانونية المتلاحقة. قانون الجريمة الإلكترونية، قانون الضمان الاجتماعي وقوانين أخرى كثيرة لا يعرف أحد من صاغها وكيف صيغت واستنادًا لأيّ شرعية قانونية أو سياسية أو حتّى وطنية.


اقرأ/ي أيضًا:

قانون الجريمة الإلكترونية.. الأخ الأكبر يراقبك

قانون الجرائم الإلكترونية: السلطة تشرعن قمع الحريات

تعامل السلطة مع الإعلام.. محاولة لفهم الجنون