29-يناير-2019

لم تكن الاحتجاجات الداخلية وردود فعل الجمهور الفلسطيني على السياسات التي تتخذها السلطات الرسمية وتتناقض مع مصالحه تلقى آذانًا صاغية لدى صناع القرار، ولم تكن تشكل أية قيمةٍ إضافيةٍ في ما يعرف بالمدخلات السياساتية للنظام السياسي الفلسطيني، فالجمهور لا يشكل مرجعية لأيٍ كان من صناع القرار، وبالتالي من الطبيعي أن يكون تأثيره ضعيفًا إن لم يكن منعدمًا، فهو لم يكن يومًا جمهورًا منتخِبًا ليحاسب من انتخبَهُم على أدائهم.

 بعد الاحتجاجات على فساد التعيينات في الوظائف العليا، مسؤولون قالوا في جلسة شبه مغلقة: "ردة الفعل لا تتعدى هوهوة دون عض"

في إحدى ردات فعل الجمهور على محسوبية وفساد التعيينات في الوظائف العليا بالسلطة الفلسطينية، ثار الجمهور ضد قرارات تعيين أبناء المسؤولين بوظائف اعتقد الجمهور أنها غير قانونية، وهي على حساب الكفاءات التي لا يمكنها المنافسة لتقلد هذه الوظائف، عندها تداول -كما علمتُ- بعض المسؤولين في الأمر خلال جلسةٍ كانت شبه مغلقة، وقالوا إن ردة الفعل التي نشاهدها لا تتعدى كونها "هوهوة دون عض"، وسرعان ما ستتلاشى، فالعمر الافتراضي لردات فعل الجمهور لا تستمر لأكثر من عدة أيام، وبالتالي لا تشكل أي قلقٍ للنظام السياسي على أي قرار يتم اتخاذه.

تعامل السلطات الرسمية مع ردود أفعال مؤسسات المجتمع المدني الفلسطينية يكون أيضًا على قاعدة أنها "هوهوة دون عض"، وفقًا لوصف المسؤولين في اجتماعهم، ولم تعد مطالباتهم أو بياناتهم تلقى آذانًا صاغية لدى جهات صنع القرار الفلسطيني. وتعي مؤسسات المجتمع المدني أن مطالباتها تلاقى استخفافًا وسخرية وعدم اكتراثٍ على مختلف المستويات السياسية العليا، وما يدعيه البعض أنهم سجلوا قصص نجاح في التأثير على بعض القرارات الرسمية هو ادعاءٌ لا أساس له على أرض الواقع، حتى نشطاء المجتمع المدني يسخرون فيما بينهم من عرض مثل هذه القصص، ويؤمنون أن رواة هذه القصص غير مقتنعين أصلاً بها، وهي تُساق لغاياتٍ تخص مروجيها، وذات أبعاد تمويلية.

الجهات المانحة الدولية تدرك في قرارة نفسها أن النظام السياسي لا يستمع لمطالبات الجمهور بإصلاحات تنعكس على سياساته ولا يستجيب لها، ولا إلى مطالبات المجتمع المدني في هذا الشأن، وقد برر أحد العاملين في سفارةٍ أجنبيةٍ دعم إحدى المؤسسات العاملة في أحد القطاعات دون أية نتيجةٍ على عمل القطاع قائلاً: "نحن نعلم أنهم Watch dog، أي كلب حراسة! يهوهوون حين يقع خطأ في ذلك القطاع، وهذا يشكل مبررًا للإبقاء على هذا العمل والدعم في القطاع المذكور".

الحالة الجديدة التي كسرت قاعدة "الهوهوة دون عض"، كانت الحركة الاحتجاجية التي ثارت خلال الشهور الماضية على قانون الضمان الاجتماعي، فقد أثبتت أنها فعلاً حركة حقوقية مدنية فلسطينية منظمة قادرة على التأثير، وأسقطت النظرية السياسية الفلسطينية "هوهوة بلا عض" ليحل محلها نظرية "هوهوة وعض"، واستطاعت أن تجبر النظام السياسي الفلسطيني على التراجع عن موقفه في ما يتعلق بالضمان الاجتماعي، حين أصدر الرئيس قراره بوقف تنفيذ القانون، لتيقنهم من حجم نمو الحركة الحقوقية المدنية وخشيتهم من تحولها إلى حركةٍ حقوقيةٍ سياسية.

إن العبرة التي يجب أن نخلص منها من معادلة قانون الضمان الاجتماعي، أن الجمهور والأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني ستكون قادرة على التأثير فقط إن اقترنت "الهوهة بالعض" وفق رؤية صناع القرار، عندها ستصبح قادرة على حراسة مقدراتها، وحماية وطنها وحقوقها من كل مظاهر التعدي الممكنة، ويصبح التأثير الداخلي أحد أهم المدخلات المؤثرة على أداء النظام السياسي.


اقرأ/ي أيضًا:

هل نشهد بوادر عصيان مدني؟

الضمان الاجتماعي يشعل يقظة حقوقية مدنية

سلطتان من ورق وحطب على عامود خيمة المنسق