09-نوفمبر-2016

صورة توضيحيّة

من المستغرب غياب أدبيات تشخِّص أو تؤرّخ للطائفيّة في فلسطين، على الأقلّ بعد نشوء دولة الاستعمار، وما تلاها من إقصاء وتهجير وتهميش. وعلى أية حال، فإن سلخ مجموعات إثنية فلسطينية كاملة، من وطنيّتها ومن  الهويّة الجامعة التي يفترض أن تكون داخلها، أبرز ما يستدعي قراءة جديّة للطائفية.

عملت إسرائيل على مبدأ حصد كلّ حقل مُعادٍ في المنطقة الخاضعة لسيطرتها، والحقل الذي لا يُمكن حصاده، يتمُّ إتلافه

اقتصار المفهوم على ما يبدو، على الاقتتال بين مجموعات طائفية، أبقى هذا النقاش بعيدًا عن المجتمع الفلسطيني، وظلّ حتى بعض الباحثين الفلسطينيين مع أي حديث عن الطائفية يستشهدون بنماذج قديمة قبل النكبة، أو بأمثلة عربية أخرى مثل لبنان وسوريا.

لكن أحد الصفات الأساسيّة المكوِّنة لهذه الظاهرة، هو تكوّن أو تكوين موقف سياسي خاص، ومنفصل على أساس دينيّ أو إثنيّ، عندها تكتسب الطائفة دورًا جديدًا إضافة إلى كونها مجموعة من الناس المؤمنين بمعتقدات دينية مشتركة، إلى أن تصير أيضًا مجموعة من الناس الذي يؤمنون بمواقف سياسية مشتركة. وفي حالة الاستعمار الاستيطاني في فلسطين فإنها تشكل مواقف سياسية إثنية مخالفة، فرّقت بين الفلسطينيين، ومايزت بينهم.

إنّ أيَّ تتبع لا يستند إلى المعنى التقليدي المذكور للطائفية، المرتبط بالاقتتال أو بالحرب فقط، سيصل إلى سياسات طائفية واضحة بدأت مع بدء دولة الاستعمار الصهيوني، فارتبطت عملية التهجير وخططها عام 1948 وقبله، بسياسات من الضم والفصل، وصناعة حدود بين مجموعات ثقافية ودينية وإثنية مختلفة، وكان هناك اهتمام خاص بالأقليات والسياسات المتعلقة بها، من بداية تأسس الدولة. وهناك شواهدعلى وجود مخططات سابقة لتأسس الدولة تجاه الأقليات والرغبة بتدجينها.

رغبت إسرائيل في البداية بطرد الدروز وتهجيرهم. لكنّها غيّرت الخطة، وذهبت إلى مسار آخر مرتبط بفصلهم عن الوطنية الفلسطينية

في واحدة من أهم الأدبيات عمّا جرى للدروز في فلسطين، يقدِّم قيس فرو (بالإنجليزية: الدروز في دولة اليهود؛ تاريخ موجز. بريل للنشر الأكاديمي 1999) محاججة من خلال شواهد تاريخية وأرشيفية، بوجود خطة إسرائيلية سابقة في التعامل مع الأقليات، ومع الدروز بشكل خاص. واستندت هذه الخطة التي ظهرت في الثلاثينيات إلى الرغبة بطرد الدروز وتهجيرهم وضمِّهم إلى أبناء طائفتهم في لبنان وسوريا. لكنّها تغيّرت فيما بعد، وذهبت إلى مسار آخر مرتبط بفصلهم عن الوطنية الفلسطينية.

اقرأ/ي أيضًا: الشباب الدرزي.. لن أخدم مُحتلي

وأوضح دليل يمكن أخذه من أجل توضيح هذه السياسات هو تأسيس وحدة خاصة في الجيش الإسرائيلي تسمى وحدة "الأقليات" منذ تأسيس الدولة عام 1948. وقد اهتمت هذه الوحدة بشكل خاص بتجنيد "مواطنين" من الأقليات، مُحاولةً كسب وتطويع هذه الأقليات المختلفة. وقد استخدمت الإدارات الإسرائيلية هذه السياسية، أي سياسة تجنيد أبناء الأقليات، لأهداف عدة، ربما يكون أهمُّها تطويع هذه المجموعات الدينية والإثنية، وأيضًا من أجل ترويج مقولة التمثيل العادل لهذه المجموعات في مؤسسات على غرار الجيش، مع أن تتبُع معظم المناصب التي يحصلون عليها، تُظهر هشاشة هذه المقولة.

وكان هناك تركيز على تجنيد الدروز أكثر من أي فئة أخرى في هذه الوحدة، كما يظهر في نسبة المجندين منهم، فيها، بالنسبة للأقليات الأخرى. فتكونت الوحدة مع تأسيسها من 400 درزي، 200 بدوي، و100 شركسي.

لقد استخدمت إسرائيل إذن سياسة التجنيد بشكل أساسي من أجل سلخ الأقليات العربية عن الهوية الفلسطينية والمشروع السياسي الفلسطيني، إذ إن الانتماء إلى المؤسسة العسكرية، يعني تعرُّض أبناء هذه الأقليات إلى مواجهة مباشرة مع فلسطينيين، وإلى انتماء أوضح، لا تتحول فيه الأقليات إلى مجموعات غريبة عن المشروع الوطني فحسب، ولكن تتحول من خلال أبنائها المُجنّدين في حروب ضد الفلسطينيين أنفسهم، إلى أعداء لهذا المشروع، ما يجعل التجنيد وسيلة أنجع لفصل الأقليات عن المشروع، وتحويلهم فوق ذلك إلى أعداء له.

استخدمت إسرائيل سياسة التجنيد بشكل أساسي من أجل سلخ الأقليات العربية عن الهوية الفلسطينية، والمشروع السياسي الفلسطيني

وحتى بالنسبة للفهم التقليدي للطائفية، صار هناك اقتتال بين أبناء الهوية والثقافة الواحدة وإن بشكل غير مباشر، تديره مؤسسات الجيش الإسرائيلي. ومع أن الاستعمار أساس فهم كل طائفية باعتبارها ظاهرة بعد استعمارية غالبًا، فإن الحالة مع الدروز حالة خاصة، إذ يكون هناك إدارة مباشرة للتمايز والاقتتال.

إنّ محاولات الفصل هذه، لا تنطوي فقط على أبعاد طائفية تساهم في تفتيت المشروع الوطني والهوية الفلسطينية المتشكِّلة داخل دولة الاستعمار، ولكنّها أيضًا تنطوي على تهميش هذه الأقليات، وتجريدها من حقِّها الطبيعي، وموقعها في مواجهة هذه الدولة، ودورها في المساهمة بتشكيل الهوية الوطنية الفلسطينية. فيتم تصوير الصراع كأنّه صراع ديني، وكأنّ إسرائيل تخوض صراعًا ضد المسلمين فقط، لا صراعًا ضدّ حركة وطنية قوميّة، وبذلك يتم نفي الطوائف والأديان الأخرى. والمحاولة المستمرة لتجنيد الفلسطينيين المسيحيين مثال واضح. 

إنّ تحويل الصراع إلى صراع يهودي إسلامي، وحرمان هذه المجموعات الإثنية من موقعها الطبيعي من الثقافة العربية الإسلامية، ومن الهوية الوطنية الفلسطينية، أكثر أشكال الطائفية مباشرة ووضوحًا.

لذلك  فإنّ سياسة صناعة حدود تاريخية وسياسية ودينية بين الطوائف العربية المختلفة في إسرائيل، كانت واحدة من السياسات الأساسية التي ذهبت إليها الحركة الصهيونية، منذ وجودها على الأرض الفلسطينية. وقد تجلى ذلك في الخطط المسبقة والتعاونات بين القيادات التقليدية للدروز مثلًا وبين الإسرائيليين.

ومع أننا لا نوافق بالضرورة على المقولة التي ذهب إليها مؤرخون إسرائيليون على غرار بني موريس، في أنّ العلاقات المسبقة بين الدروز والإسرائيليين هي التي حمت القرى الدرزية من التهجير، ولكن هناك إجماع على وجود علاقات على الأقلّ بين القيادات الدرزية والإسرائيليين، ومحاولة من البدء لاحتوائهم.

من اللحظة الأولى التي أقيم فيها التعداد الإسرائيلي الأول، عام 1948، صُنف الدروز في خانة مستقلة، كطائفة دينية منفصلة عن المسلمين. 

محاولات الفصل والاحتواء، استمرّت من خلال مجموعة من الإجراءات الواضحة التي مارستها الدولة في "إسرائيل" مع الدروز من أجل سلخهم عن المجتمع الفلسطيني وقضيته؛ فمن اللحظة الأولى التي أقيم فيها التعداد الإسرائيلي الأول، عام 1948، صُنف الدروز في خانة مستقلة، كطائفة دينية منفصلة عن المسلمين. ومهّدت هذه اللائحة التي صممها التعداد الإسرائيلي الأول، لمفهوم مواطنة قائم على تهميش وإقصاء، وعلى ضم وفصل، فأظهر الرغبة المصممة مسبقًا عند الحركة الصهيونية للاستثمار بالأقليات الدينية وإقصاء أقليات أخرى. وصار  الدروز مجموعة اجتماعية وإثنية منفصلة معروفة العدد والنسبة من إجمالي عدد السكان. وكان كل ذلك بالتوازي مع انشغال البحاثة الإسرائيليين والطواقم الأنثروبلوجية بالبحث واقتراح أصول عرقية غير عربية للدروز، ونفيهم من التاريخ الثقافي الإسلاميّ.

اقرأ/ي أيضًا: إسرائيل عندما تعوِّل على الواقي الذكري

قبل ذلك، وجد الدروز أنفسهم منعزلين انعزالًا كاملًا عن أبناء طائفتهم في لبنان أو سوريا، وكانوا قد حصلوا على "امتياز" البقاء، فلم يُهجّروا، مع أن مصادرة الأراضي طالت أراضيهم أيضًا. ولعلّ العاملين المذكورين؛ العزلة و"الامتياز" وسياسات الاحتواء والفصل الذي مارسته الحركة الصهيونية من البدء مع الطائفة، كانت عوامل مؤسسة في سلخهم عن الهوية الفلسطينية، ومحاولة أسرلتهم من دون إعطائهم مواطنة كاملة، ومع كثير من التهميش والإقصاء.

يقول يغئيل يادين - قائد أركان سابق في الجيش الإسرائيلي، ومسشار  أمني - متحدثًا عن الأقليات، ما نجده إصابة مباشرة لسياسة إسرائيل تجاهها: "علينا أن نحصد كل حقل معاد في المنطقة الخاضعة لسيطرتنا، وكل حقل لا نستطيع حصاده علينا إتلافه، وفي كل الأحوال علينا منع العرب من جني ثمار هذه الحقول". ولعلّ هذه السياسة التي أطلق عليها سياسة معركة حصاد الحقول، توطئة وعتبة لفهم سياسة الطائفية بشكل عام، والتي كانت جزءا أصيلًا من وجود الصهيونية على الأرض، وجزءًا من سياساتها تجاه الدروز، تحديدًا.

من البداية، كان هُناك رغبة إسرائيلية بوضع الدروز في مواجهة مباشرة مع الفلسطينيين الآخرين، المتضررين من الاحتلال، إمعانًا في عزلهم عن امتدادهم

ونجد مجموعة من الإجراءات المختلفة التي ساهمت السياسة الإسرائيلية من خلالها، في خلق حدود كاملة للطائفة الدرزية، من إجبارها على التجنيد الإجباري، إذ كان الدروز أغلبية في وحدة الأقليات التي تم تأسيسها بين نهايات عام 1948، وبداية عام 1949. ولم تتوقف السياسات الإسرائيلية تجاه الدروز عند هذا الحدّ. فقد فصلت الدروز في التعامل اليومي لإداراتها المدنية والعسكرية، وعلى الرغم من التمييز الذي ظلَّ موجَّهًا ضدهم، والذي لم يبدأ بمصادرة الأراضي ولم ينته بالتفرقة العنصرية، إلّا أنّ الدولة قدَّمت لهم "امتيازات" متعلقة بالوظائف في القطاع العام، فتجد نسبتهم أكثر من أي طائفة أخرى غير يهودية، إضافة إلى أن معظم من ترأسوا لجنات البناء والتخطيط في المناطق العربية كانوا من الدروز، وهذه اللجان هي اللجان التي تختص بتراخيص البناء والهدم، وهذه إشارة إلى الرغبة الإسرائيلية الدائمة بوضع الدروز في مواجهة الفلسطينين الآخرين، المتضرريين غالبًا من عمليات الهدم ومنع التراخيص.

اقرأ/ي أيضًا: الخدمة المدنية: سلاح إسرائيل الناعم

إضافة إلى ذلك، فقد تمت إقامة جهاز منفصل للقضاء، خاص بالدروز، مستقل عن الجهاز الإسلامي، وتم إعادة تشكيل روزنامة المناسبات المشتركة بين الدروز والمسلمين في إسرائيل، مثل إلغاء العطلة الرسمية المعتمدة لهم في عيد الفطر. ولم تقتصر صناعة "الدروز كاستثناء" على اختراق حتى الوقت والمشتركات التقليدية، فقد أعادت ضبط الجهاز التعليمي كاملًا للدروز، حتى وصل الاستخفاف إلى حدِّ تحديد مناهج خاصة بالدروز في مجالات العلوم الطبيعية والرياضيات! ولعب الجهاز التعليمي المنفصل، ودائرة المعارف الخاصة، أدوارًا خاصّة في صناعة رواية تاريخية مختلفة. واستغراقًا في تعزيز فكرة التاريخ الخاص والمنفصل؛ تم تأسيس متحف درزي أقيم في جامعة حيفا عام 1975، مع مجموعة من الوثائق التي تشير إلى المشتركات اليهودية الدرزية، وكان ذلك إضافة إلى الشغل النظري البحثي والميداني الذي دأب عليه مؤرخون وأنثرولوجيون إسرائيليون عن تاريخ الدروز المنفصل كما قلنا، وكان وما يزال هناك استغلال للمتحف في صناعة حدود أكثر وضوحًا للطائفة. فالمتحف الذي يعتبر واحدة من أساسات تشكُّل الهوية القومية والذاكرة الجمعية، صار في هذه الحالة وسيلة لصناعة ذاكرة مخالفة ونقيضة، وتفتيت الذاكرة الجمعية، ولتشكيل هوية على صراع وانفصال عن الهوية القومية الفلسطينية.

وحتى الآن، يوضع الدروز في مواضع الصراع مع الفلسطينيين، ويشكِّلون جزءًا من الوحدات المخصصة لإدارة الضفة الغربية، والمشاركة في الحروب على غزة.

إن ضرورة فهم ما يحدث للمجموعة الدرزية الفلسطينية، كسياسيات طائفية. هو تأكيد على كون هذه المجموعة بمثابة جزء أصيل من المجتمع والشعب الفلسطيني، وتأكيد أن انفصالها لم يكن إلّا تحت ظروف خاصة وسياسات استعمارية واضحة، دون الحاجة إلى الوقوع في فخِّ هذه السياسات نفسها، بإدانتهم وتوريطهم.

يبقى السؤال عن مصير مجموعة مثل المجموعة الدرزية الفلسطينية، من أهم الأسئلة التي يواجهها المجتمع المستعمَر، وأكثرها تركيبًا. إنّه رهان من رهانات كثيرة توضع على عاتق الهوية الوطنية الجامعة، وعلى قدرتها على التعامل مع أجزائها، من دون الوقوع في فخ التفرقة والتشظية. 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

دماء "الهنود الحمر" من أجل غسل ذنوب إسرائيل

إيلان بابيه يفضح "فكرة إسرائيل"

منجل إسرائيل في حصاد الثورات المضادة