10-يونيو-2019

في كل مأزقٍ تمر به القيادة الفلسطينية، تطالب الشعب بالوقوف في وجه المؤامرات، أو بالصبر والتحمل، لأن أمامه أيامًا عجافًا.

اليوم، يعاني النظام السياسي الفلسطيني حالة عجزٍ اقتصاديٍ لا أفق واضحًا للخروج منها، بل إن كلام رئيس الوزراء محمد اشتية الأخير يوحي بأن الأزمة تتعمق أكثر، وأن الحزام الذي طُلب من المواطنين أن يشدوه قليلاً، بات عليهم اليوم أن يعصروا به خُصورهم، وأن يضعوا حجارة على بطونهم، ليتحمّلوا ما هم مقبلون عليه.

هذه الأزمة قديمة قدم السلطة، وسوء إدارة المال العام أمر رافق إنشاءها، حتى بات صفة لأدائها

ومعلومٌ أن هذه الأزمة قديمة قدم السلطة، وسوء إدارة المال العام أمر رافق إنشاءها، حتى بات صفة لأدائها، وما حكاية الكشف الأخيرة والتسريبات إلا جزءٌ من صراع قوى ونفوذٍ وتصفية حسابات، وقد يكون كل ما كشف، قمة جليدٍ لم نرَ منه إلا ما أريد لنا أن نراه.

اقرأ/ي أيضًا: حكومة ضد حكومة

والمواطنون عمومًا يقدّمون دون حساب، ودومًا كانت أرواحهم على أكفّهم في كل عدوان أو مواجهة، وهم أول من يواجه، وآخر من يستريح، وهم الوحيدون الذين لا يُدعَوْن عند توزيع نياشين البطولة. إنهم ينسحبون من المشهد مع آلامهم وجراحهم، وما تبقى من أجسادهم، ليتغنى غيرهم بصمودهم الأسطوري والمشرّف.

بالتزامن مع الوضع الاقتصادي السيئ الذي تعانيه السلطة الفلسطينية، تكشفت في الأيام الأخيرة قضايا فساد، أو سوء إدارة للمال العام، في توصيف أنعم، بدا خلالها أن هناك فئتين تعيشان وسط الأزمة نفسها: فئةٌ تأكل العنب ولا علاقة لها بكل ما يحدث، وأخرى تأكل الحصرم وتضرّس وتدفع من قهرها الثمن.

إن سوء إدارة المال العام، الشحيح أصلاً، ألّب قلوب الناس على كامل المنظومة، فباتوا ينظرون بريبةٍ إلى كل الدعوات للصمود والتصدي باعتبارها توجيهات بالريموت كونترول، من قيادةٍ تعيش في وادٍ، لشعب يعيش في وادٍ آخر، ومع قناعة أن هذه الدعوات أقرب إلى كونها هبّة طارئة، وليست حالة إصلاح شاملة.

مطلوبٌ من الشعب أن يكون شريكًا في المغرم، بل ووحيدًا فيه، لكنه ليس شريكًا ألبتة في المغنم.

مطلوبٌ من الشعب أن يكون شريكًا في المغرم، بل ووحيدًا فيه، لكنه ليس شريكًا ألبتة في المغنم.

لا يمكن أن تدعو مواطنًا للذهاب هو وأولاده إلى أعمالهم ومدارسهم مشيًا على الأقدام، فيما يرون عددًا من المسؤولين لا يتحركون إلا بمواكب وسيارات فاخرة.

لا تستطيع أن تطلب من المواطنين الصبر على النظام الصحي السيئ بسبب الوضع المالي، فيما يذهب بعض المسؤولين للعلاج في مستشفيات يختارونها بعناية.

اقرأ/ي أيضًا: وهم الحرية

لا تطلب من المواطن أن يصدقك عندما تمدح النظام التعليمي الحكومي، فيما أبناؤك في مدارس خاصة لأن المدارس الحكومية لا تليق بهم.

هنا، تتحول دعوة المواطن للصمود نكتة سمجة لا تدعو للضحك، بقدر ما تدعو للغضب والازدراء.

الفساد، أو سوء إدارة المال العام، لا باعتباره سلوكًا فرديًّا شاذًّا، بل باعتباره سلوكًا عامًّا؛ هو عاملٌ مثبطٌ لأي التفاف شعبي حول القيادة.

وفوق هذا، فإن المواطن الفلسطيني اليوم بلا أظافر قادرة على "خرمشة" أي عدو. لقد قُصت الأظافر وقطعت الأصابع أيضًا، عبر تحويل كل المواطنين إلى موظفين أو عمال، مقابل إهمال القطاع الزراعي بالكامل، والقضاء على القطاع الصناعي، من خلال منح تسهيلاتٍ للاستيراد على حساب البضائع المحلية، وعبر خطط تنمية شكلانية تستند إلى مشاريع دول مانحة لا يمكن أن تنتج اشتراطاتها تنمية حقيقية، بل مجرد وهم لا يصمد أمام أي محك.

كما أن الاتحادات والنقابات تحولت إلى أجسام رخوة غير فاعلة، متماهية مع السلطة، غير قادرة على الدفاع عن أعضائها.

ليست لدينا معارضةٌ سياسيةٌ حقيقية. لدينا معارضةٌ تعيش في جيب السلطة، وعلى حساب السلطة.

وفوق هذا، فليست لدينا معارضةٌ سياسيةٌ حقيقية. لدينا معارضةٌ تعيش في جيب السلطة، وعلى حساب السلطة.

هكذا، سيموت البحر، لأن الحارس نهب البيدر.

ببساطة، حال الخطاب اليوم بين القيادة والمواطنين قال فيه الشاعر:

ألقاه في اليمّ مكتوفًا وقال له.. إياك إياك ان تبتلّ بالماء

مواطن بلا أظافر، وبصوت مخنوق، تحاصره العقلية الأمنية، والتهم الجاهزة بالتساوق مع أجندات خارجية، يعيش في وادٍ غير ذي زرع، فيما يعيش "أولياء النعمة" في بروجٍ عالية، يكتفون فقط بمراقبة المواطن الذي يتلقى العصيّ، ومطلوبٌ منه أن يتصدّى!

عندما تولّى الصدّيق يوسف خزائن مصر، علم أن بعد السنين السبع السمان سبعًا عجافًا، فأعد لها العدة، ومر بقومه منها سليمًا من الأذى.

أمام القيادة الفلسطينية مهمةٌ واضحةٌ قبل الدعوة للصمود والتحمل: تعزيز المساءلة والمكاشفة وتطبيق القانون، وأن تعيش بين الناس، لا بالخطاب الشعاراتي، بل بالفعل الحقيقي الذي يثبت جديّتها في القضاء على الفساد، وتحويل التقشف إلى حالةٍ عامة، فتمتين الجبهة الداخلية خطوةٌ لا غنى عنها قبل الوقوف سدًّا منيعًا في وجه احتلال يتربص بها الدوائر.


اقرأ/ي أيضًا:

هل تنهار السلطة مع نهاية تموز؟

سلطة مقاصة

المنسق يرحب بكم في معبر قلنديا