28-مارس-2021

شيخ الجغرافيين الفلسطينيين كمال عبد الفتاح في جنين 2020 (تصوير: مجاهد بني مفلح)

في الجزء الأول كتب بسام الكعبي عن تفاصيل الرحلة التي قام بها الجغرافيّ كمال عبد الفتاح بصحبة ابنه قيس، انطلاقًا من مدينة جنين، وصولًا إلى بلدة حطين غربيّ بحيرة طبريا، ورجع للوراء متحدّثًا عن عائلته ونشأته، وكذلك دراسته الابتدائية والثانوية، وسفره إلى أنقرة على أمل منحة دراسية، ثم العزوف والعودة إلى جنين، وتقديم التوجيهي المصري صيف 1960.

في السطور أدناه يواصل الكعبي رواية مسيرة "شيخ الجغرافيين" الفلسطينيين:


رافق كمال عبد الفتاح ستة من زملائه أثناء التنقّل بين جنين ونابلس طوال أشهر بغرض الدراسة المسائية في كلية النجاح، وتقدم مع 16 طالبًا لامتحان الثانوية العامة المصري، وحصل على تقدير جيّد في الفرع العلمي. قابل برفقة زملائه المتفوقين وزير التربية الأردني الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، وعَرَض عليهم منحة دراسية في جامعة دمشق أو جامعة القاهرة لدراسة تخصصات تحتاجها مدارس المملكة، وحصرها في الشريعة الإسلامية، التاريخ والجغرافية، وأعلن عدم حاجة المدارس الأردنية لتخصص الكيمياء في السنوات المقبلة. اختار كمال دراسة الجغرافية في جامعة دمشق، أحمد شبول دراسة التاريخ، وزميل ثالث من سلفيت اختار الشريعة الإسلامية.

   التحق كمال أواخر شتاء 1960 بقسم الجغرافية في كلية آداب جامعة دمشق، وكان من أفضل الطلبة المتفوقين    

التحق كمال أواخر شتاء 1960 بقسم الجغرافية في كلية آداب جامعة دمشق، وكان رئيس القسم الدكتور عادل عبد السلام خريج جامعة برلين. دَخَلَ القاعة الخاصة في قسم قديم للجغرافية في جامعة دمشق، وتأمّل بصمت الخرائط الكثيرة والصور وأجهزة المساحة الصغيرة المتعددة، وانتظم بالتردد على قاعة قسم الجغرافية.

سَجَل مادة الجيولوجيا (علم طبقات الأرض) مع الأستاذ يوسف خوري، وكان حريصًا على تدريسهم الجيولوجيا في الميدان؛ إذ كان المعلم يرافق طلابه أسبوعيًا إلى مناطق متعددة في سوريا. حاضر الدكتور عمر الحكيم في مادة الجيومورفولوجيا (علم شكل الأرض) وكان يكتب دومًا في نهاية كل فصل دراسي: لم ينجح أحد! لكن كمال تمكّن مع خمسة من زملائه الموفدين من كلية النجاح، كسر قاعدة الدكتور عمر الحكيم الذي تخرج من جامعة برلين، وبات محاضرًا مرموقًا في جامعة دمشق بمادة (الجيومورفولوجيا) وتعني المفردة اللاتينية في اللغة اليونانية (علم شكل الأرض).

حاضر الأستاذ أديب، من الجولان، في جغرافية المواصلات، الأستاذ سليم الموصللي في الايكولوجيا والجغرافية الإقليمية، الأستاذ عبد الكريم رافق، من مدينة صافيتا شمال سوريا، في مادة التاريخ العثماني، وحاضر الأستاذ أحمد طرابينو في المواد العلمية. وقّع على شهادات تخرج قسم الجغرافية الأستاذ سعيد الأفغاني عميد كلية الآداب باعتباره "أفضل أستاذ جغرافية في سوريا، كان علّامة رغم أنه خريج خامس ابتدائي".

  لتفوّقه، رشّحه أحد أساتذته لمرافقة البروفيسور الألماني (هيتوروت) في رحلة جغرافية إلى البادية السورية   

وصل أواخر كانون ثاني 1963 جامعة دمشق البروفيسور الألماني (هيتوروت) وقد نال شهادة الدكتوراه سنة 1958 عن منطقة شرق الأناضول. التقى الشاب الألماني الدكتور صلاح الدين عمر باشا، وطلب منه ترشيح طالب متفوّق يتقن اللغة الإنجليزية لمشاركته في رحلة جغرافية إلى البادية السورية. اتجه مسؤول المرسم محمد ياغي، فلسطيني الجنسية، إلى القاعة وسأل عن كمال عبد الفتاح الذي لم يكن موجودًا في المرسم. علم في اليوم التالي من زملائه أن الدكتور صلاح الدين باشا يسأل عنه، وعند مراجعته تعرف في مكتبه على الدكتور الألماني (هيتوروت) ورغبته بمرافقته في رحلة علمية.

أخبر كمال أستاذه الدكتور صلاح الدين أن شهر كانون ثاني في نهاياته، ولم يتسلّم بعد مبلغ منحته من السفارة الأردنية، ولا يمتلك ما يغطي مصاريفه الشخصية. أوضح له أستاذه أن الباحث الألماني يتحمّل كل المصاريف، ولديه استعداد لدفع مبلغ مالي نظير مرافقته، فاعترض كمال على أخذ أي مال مقابل مرافقته، لكنه وافق على قيام الباحث الألماني بتسديد تكاليف السفر والإقامة.

غاب الباحث الألماني عدة أيام في رحلة إلى بادية الشام قبل أن يلتقي كمال في مدخل قسم الجغرافية، ويرافقه إلى سكنه الطلابي في شقة جيّدة في حي البرلمان، من ضواحي دمشق الراقية. تعرف الباحث (هيتوروت) في الشقة على زملاء كمال طلبة جامعة دمشق: فيصل العفيفي، عبد الله مصطفى، عبد الله عارف، وليد مصطفى وعبد العزيز سليمان، وتناول وجبة برفقتهم، وقضى ليلته في شقتهم السكنية الواسعة: قيمة الأجرة الشهرية 300 ليرة سورية كانت توزع بالتساوي على ستة طلاب موفدين بمنحة على ميزانية وزارة التربية الأردنية.

 عام 1963، خرج كمال برفقة أستاذ جامعي في رحلة جغرافية شملت تدمر والسخنة الرقة ودير الزور والحسكة والقامشلي في سوريا 

انطلق (هيتوروت) في سيارة مستأجرة برفقة كمال صباح 8 شباط 1963 إلى خان أبو الشامات، 60 كيلومترًا شرقي دمشق، على أمل اجتياز الحدود السورية نحو أطراف العراق، ولاحظ الباحث والطالب مئات السيارات في طريقها إلى الشام، وعلما أن انقلابًا عسكريًا بقيادة عبد السلام عارف أطاح بالرئيس العراقي عبد الكريم قاسم. غيّر (هيتوروت) خطته، واتجه إلى مدينة تدمر وتابع نحو الشمال إلى بلدة السخنة، برفقة السوري وقّاع إبراهيم، وقّاع الذي التقياه صدفة ورافقهما من تدمر باتجاه بلدته السخنة، وأصر وقّاع على تناولهما وجبة العشاء في بيته، وقضاء الليل بضيافته. أكمل (هيتوروت) برفقة كمال رحلته باتجاه الرقة، دير الزور، الحسكة والقامشلي، وسجّل مشاهداته عن جغرافية المنطقة.

أنجز بعض طلبة السنة الرابعة في الجغرافية مشاريع التخرج عن مدنهم: حسين العودات كتب عن درعا، سهام زيتونة وثقت حلب، نديم البيطار تناول اللاذقية، وقرر كمال أن تكون مدينة جنين موضوع تخرّجه، وأجرى أبحاثًا ميدانية، وقابل سنة 1964 كامل قعوار مسؤول مصلحة المياه الأردنية، وأرشده إلى المهندس الجيولوجي منيب المصري، أحد موظفي الدائرة قبل أن يغادر إلى السعودية وينجح في عالم التجارة والأعمال، وقد حصل كمال على المعلومات الجيولوجية المتعلقة بمدينة جنين. 

    أنجز كمال عبد الفتاح مشروع تخرّجة من جامعته عن مدينة جنين، وقد وزّعته وزارة التربية الأردنية على مدارسها الإعدادية 

تفوّق كمال في مشروع التخرج الذي قدّمه أواسط أيار 1964 بإشراف الدكتور أنور النعمان، مستندًا في بحثه على العمل الميداني، وسجلات الدوائر الحكومية وبلدية جنين وتسعة مراجع في جغرافية وتاريخ المنطقة. طبع من مشروع تخرجه (السيمينار) في دمشق 400 نسخة، وابتاعت وزارة التربية 200 نسخة من الكتاب مقابل 40 دينارًا، ووفرتْ نسخة لكل مدرسة إعدادية في المملكة الأردنية.

أصدر كمال (مدينة جنين) ولم يكن يتجاوز الثانية والعشرين، وافتتح الكتاب (109 صفحة من القطع المتوسط) بمقدمة جاء في بعض فقراتها: "لهذه البلدة التي نشأت فيها دين في عنقي كنتُ توّاقًا دائمًا للوفاء به، وسنحت الفرصة لأفي بعض هذا الدين بأن أقدّم هذه الدراسة المتواضعة عن المدينة؛ علّها تكون دليلًا صادقًا لمن يريد أن يتعرّف على وطنه، وبصيص ضوء لمن يريد أن يتعمّق في دراساته آملًا أن تفي بالغرض المطلوب".

كمال عبد الفتاح

تناول كتاب (مدينة جنين) أربعة فصول: الموقع والحدود ولمحة تاريخية. التضاريس والجيولوجيا والمناخ والمياه والتربة. الزراعة والحرف والمهن والتجارة وأموال المغتربين والمواصلات والنقل. الحياة البشرية والاجتماعية والمساكن والعادات والتقاليد.

   كتب في مقدمة مشروع تخرجه: "لهذه البلدة التي نشأت فيها دين في عنقي كنتُ توّاقًا دائمًا للوفاء به (...) أقدّم هذه الدراسة المتواضعة علّها تكون دليلًا صادقًا لمن يريد أن يتعرّف على وطنه" 

تقع جنين في فم الوادي الشمالي المنحدر من قلب جبال نابلس وأيضًا في نقطة تماس الجبل بالسهل: نهاية الطرف الجنوبي الشرقي لخط منحدرات جبال الكرمل تلامس رأس مثلث سهل مرج بن عامر ومساحته نحو 400 كيلومتر مربع، وشكلت تضاريس جنين مخرجًا لتدفّق الوديان نحو السهل، ولذلك اشتهرت باسم (عين جانيم) أي عين الجنات لكثرة مياهها وبساتينها.

خضعتْ جنين للرومان ثم البيزنطيين ومرّ بجوارها السيّد المسيح عليه السلام في طريقه إلى الناصرة، وحكمها الأمويون والعباسيون، واحتلها الصليبيون وحررها صلاح الدين الأيوبي، وعاشتْ صراعات نفوذ العائلات الاقطاعية أثناء الهيمنة العثمانية، وواجهتْ الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بنوبارت، وتعرضتْ للاحتلال البريطاني، وأطلقتْ شرارة أول ثورة مسلحة بقيادة الشيخ عز الدين القسام، وقاومتْ العدوان الإسرائيلي خلال النكبة، وضُمتْ للمملكة الأردنية عقب مؤتمر أريحا.

يتبع..