17-أبريل-2021

الجغرافيّ كمال عبد الفتاح في بيته بمدينة جنين (تصوير: عدي دعيبس)

كتب بسّام الكعبي في الجزء الأول من هذه السلسلة عن عائلة الجغرافي كمال عبد الفتاح ونشأته، ودراسته الابتدائية والثانوية، وعن تقديمه التوجيهي المصري صيف 1960، وواصل في الجزء الثاني الحديث عن التحاقه بقسم الجغرافية في كلية آداب جامعة دمشق 1960، وعن رحلته إلى البادية السورية برفقة أستاذه الألماني، وصولًا إلى إنجازه مشروع تخرّجة عن مدينة جنين.

وفي هذا الجزء، يستكمل الكعبي رواية سيرة شيخ الجغرافيين الفلسطينيين، ابتداءً من تعيينه معلّمًا في وزارة التربية والتعليم الأردنية، مرورًا بجولاته في جبال عسير جنوب غرب السعودية، ثم انتقاله لجامعة بيرزيت، وتنظيمه رحلات استكشافية لطلبته في أرجاء فلسطين:


عُيّن كمال عبد الفتاح سنة 1964 معلّمًا في وزارة التربية والتعليم الأردنية، وعمل في مدارس نابلس تحت مسؤولية مدير التربية عبد اللطيف عابدين، ثم انتقل إلى مدرسة جنين الثانوية بعد مغادرة أستاذ التاريخ عبد الرحمن غنام إلى جامعة مكة، وتم تعيين والده، جبر حسن عبد الفتاح، رئيسًا لقسم الامتحانات في التربية، وقد تسلم (أبو كمال) قبل ذلك إدارة عدة مدارس في يعبد وبلدات جنين، وعيّن توفيق عمرو مديرًا للتربية في جنين.

  ظل معلمًا في مدرسة جنين الثانوية حتى احتلال "إسرائيل" للضفة الغربية والقدس وقطاع غزة وصحراء سيناء المصرية ومرتفعات الجولان 

نظم الأستاذ كمال سنة 1965 رحلة جغرافية ميدانية لمجموعة من طلابه (55 طالبًا) تجولتْ في أريحا والأغوار ومدن الضفة الشرقية من الشمال حتى العقبة في الجنوب مرورًا بالبتراء والمواقع الجغرافية والقلاع التاريخية. ظل كمال معلمًا في مدرسة جنين الثانوية حتى قيام "إسرائيل" باحتلال الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة وصحراء سيناء المصرية ومرتفعات الجولان السورية في عدوان حزيران/ يونيو 1967.

أعلن المعلمون في الضفة الغربية تعليق الدراسة احتجاجًا على الغزو الإسرائيلي، لكن الاتجاه الوطني العام دفع نحو عودة المعلمين والمعلمات إلى التعليم، وإعادة فتح المدارس حفاظاً على مصلحة الطلبة. تم تعيين الأستاذ أكرم العلمي مديرًا للتربية في جنين، والمعلم كمال مفتّشًا في التربية، وظل في وظيفته من سنة 1968 حتى 1973 عندما أخذ إجازة دراسية لمدة عامين وفق قانون وزارة التربية والتعليم.

غادر سنة 1973 إلى ألمانيا بتشجيع من الدكتور (هيتوروت) وعمل باحثًا في جامعة ايرلنغن (في الوسط الشرقي للجمهورية) حيث يحاضر الأستاذ الألماني، وسَجلَ للدكتوراه، تحت إشراف أستاذه، وفق أنظمة الجامعات الألمانية التي تعفي الطلبة من الماجستير. تعلم اللغة الألمانية في قسم تعليم اللغة للأجانب في مدينة ايرلنغن التي أقامت فيها شركة (سيمنز) مقرها ويعمل فيها 12 ألف مهندس، وكانت تُعلّم الألمانية مجانًا للمهندسين الأجانب لضمان تسويق إنتاجها من الأجهزة الطبية.

أقام كمال مع مهندس كوري في بيت لمواطن ألماني يدعى (ايبل) متزوج من سيدة مصرية، وحصل على شهادة اللغة الألمانية، وتمكن من التحدث بالألمانية بعد 7 أشهر من إقامته في ايرلنغن. قضى وقتًا طويلًا في مكتبة الجامعة، وقرأ كثيرًا من الكتب والمراجع، وحضر العديد من المحاضرات في كليات الجامعة.

أبدى كمال رغبة في كتابة أطروحة الدكتوراه عن المدينة المنورة، لكن أستاذه (هيتوروت) شجّعه على كتابة أطروحة الدكتوراه عن جبال عسير في جنوب غرب المملكة العربية السعودية؛ لأنها زاوية مهملة في الجزيرة العربية رغم مساحتها الهائلة التي تضاهي 8 أضعاف مساحة فلسطين.

 أبدى كمال رغبة في كتابة أطروحة الدكتوراه عن المدينة المنورة، لكن أستاذه شجّعه على كتابتها عن جبال عسير؛ لأنها زاوية مهملة في الجزيرة العربية 

عبر جبال عسير الجغرافي الإغريقي الشهير (سترابو) سنة 24 قبل الميلاد مع حملة القائد العسكري الإغريقي جاليوس التي استهدفت تدمير مملكة سبأ واحتلال مأرب في اليمن. كتب (سترابو) 43 مجلدًا جمع فيها كل المعارف الجغرافية في ذلك الوقت وسميت بـ (الأطروحة الجغرافية)، واعتمد في بعض مصادره على ثلاثة مجلدات للجغرافي الاغريقي الأول (اراتوستينس) وشرح في مجلده السادس عشر عن جغرافية سوريا، فلسطين والجزيرة العربية، فيما ركّز معظم المجلد السابع عشر على جغرافية مصر. اعتبر (سترابو) الأب الروحي للجغرافية الطبيعية؛ لأنه شدد على ضرورة تقسيم الدول في العالم بناء على الحدود الطبيعية وليس الحدود السياسية.

تجوّل طالب الدكتوراه كمال ميدانيًا أربع مرّات في جبال عسير برفقة أستاذه الألماني بين 1974- 1976 وكان يقضي في كل جولة ثلاثة أشهر على الأقل. كتب أطروحة من أربعة فصول عن توسّع وتراجع عسير، الموقع والتاريخ والجغرافية، أشكال الإسكان وحضاراتها المتعددة، ونال سنة 1978 درجة الدكتوراه على أطروحته القيمة.

خلال إقامته في ألمانيا كتب عشرات الرسائل لزوجته في جنين، وثّق فيها كل مراحل دراسته وحياته وسفره وتنقلاته وعمله في مصانع ألمانية؛ وقد وفّر من أجرته في المصانع نحو 2500 مارك ألماني، صرفها في أداء طقوس الحج برفقة زوجته؛ وبخاصة أن المال  جمعه بجهده العضلي بمعزل عن منحته الأكاديمية.

 انتقل إلى جامعة بيرزيت عام 1978، كأستاذ للجغرافية في دائرة دراسات الشرق الأوسط 

بدأ الدكتور كمال أواسط أيلول 1978 الدوام كأستاذ للجغرافية في دائرة دراسات الشرق الأوسط في كلية آداب جامعة بيرزيت (الحرم القديم)، ثم أصبح ثاني عميد لكلية الآداب سنة 1980 عقب الدكتور محمد الحلاج تلاه جورج جقمان، ناجي عبد الجبار، أحمد بكر، حنان عشراوي، سعيد زيداني وماهر حشوة وآخرين.

أنشأ دائرة للتاريخ وأخرى للجغرافية بديلًا لدائرة دراسات الشرق الأوسط، ووضع مساقًا لجغرافية فلسطين: سلسلة جبال تمتد وسط البلاد وتحجز بين الأغوار وسهولها في الشرق والشريط الساحلي في الغرب، وعندما تنقطع السلسلة الجبلية جنوب الخليل تبدأ صحراء النقب الواسعة التي تبتلع نصف مساحة فلسطين وتنتهي على رأس البحر الأحمر في الجنوب.

الدكتور كمال مع زملائه وبعض طلبته في جامعة بيريت أثناء جولة جغرافية

انطلق مع طلاب دائرة الشرق الأوسط سنة 1979 في أول رحلة طافت أرجاء فلسطين، بدأتْ من بيرزيت واتجهت شرقًا نحو أريحا مرورًا بقرى رام الله الشرقية، وتابعتْ شمالًا على امتداد نهر الأردن حتى طبريا وبيسان وحطين، ثم صفد والحدود الشمالية والجليل الأسفل والأعلى وسهل مرج بن عامر والساحل الفلسطيني، وواصلتْ جنوبًا باتجاه النقب الفلسطيني وبئر السبع ومدينة عبده الأنباطية حتى ميناء أم الرشراش أعلى نقطة في البحر الأحمر.

رافقته ربيع 1985 في إحدى الرحلات الجغرافية التاريخية: اتجهتْ الحافلة في ساعات الصباح الأولى من بيرزيت شمال مدينة رام الله باتجاه الشرق نحو قرى بيتين، دير جرير، المزرعة الشرقية، سلواد، رمون، كفر مالك والطيبة وتقع معظم هذه البلدات حول (تل العاصور) الذي يرتفع 1016 مترًا عن سطح البحر ويطل على منطقة الأغوار، وتكثر عند أقدامه ينابيع المياه وبخاصة عين سامية المشهورة التي تزود أهالي رام الله بمياه الشرب وقد باتتْ هدفًا للاستيطان! عرض الدكتور كمال شرحًا مكثّفًا عن الزراعة الجبلية، البساتين، الصخور، الوديان، واتجاه حركة المجرى نحو الأغوار المنخفضة، الينابيع، الاستيطان وسيطرة قوات الاحتلال على قمة تل العاصور رابع أعلى جبل في فلسطين.

تهبط الحافلة في غضون عشر دقائق من بلدة الطيبة التي ترتفع 860 مترًا عن سطح البحر إلى مدينة أريحا التي تنخفض نحو 260 مترًا عن سطح البحر، وتقع أقدم مدينة تاريخية شمال البحر الميت وقد سكنتها البشرية منذ عشرة آلاف سنة، وتعرضتْ لموجات من الاعتداءات عبر تاريخها الطويل.

  تواصلتْ رحلات الدكتور كمال الجغرافية حتى اندلاع الانتفاضة الأولى، حيث ضيّق الاحتلال حركة التنقل  

تابعتْ الرحلة مسارها نحو الشمال على الطرف الغربي لنهر الأردن حتى بحيرة طبريا ومدينة بيسان المدمرة وسهل بيسان مرورًا إلى منطقة الجليل وجبل طابور وحتى الحدود الشمالية مع لبنان، ثم نزولًا إلى السهل الساحلي وصحراء النقب وبئر السبع وحتى ميناء أم الرشراش.

وقف جنوب بحيرة طبرية وشرح سبب تكونها على صبة بركانية عميقة، تسهم الفوهات البركانية القريبة من السطح بتسخين المياه في حمامات طبرية، ويبلغ متوسط عمق البحيرة 28 مترًا بطول 20 كيلومتر وعرض 12 كيلومترًا وبمساحة قدرها 168 كيلومتر مربع تحتوي 2 مليار متر مربع من المياه. اتجه نحو بحيرة الحولة وشرح أسباب تجفيفها، ثم سار غربًا متتبعًا مقطع طريق الحرير التاريخي في فلسطين وعبوره طرقًا ملتوية حول جبال الكرمل وصولًا إلى البحر، وطريق الحرير التجاري الذي نشأ منذ ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد، ويمتد من غرب الصين ويخترق الجزيرة العربية نحو البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر لمتابعة مساره البحري نحو أوروبا.

شرح تاريخ الصراعات على قمة جبل طابور، شرقي الناصرة المرتفعة، وتشييد أول قلعة وكنيسة على جبل محدب الشكل مثل ظهر حوت، ويطلق عليه أيضًا الطور، وتقع بلدة دبورية على السفح الغربي للجبل وكذلك قريتي عرب شبلي والسعايدة، فيما يقع جبل الدحي الأقل ارتفاعًا في الجنوب الغربي للطور، ويصعد الجبلان وحدهما من قلب سهل مرج بن عامر، وأبرز تاريخ أكبر سهل في قلب فلسطين وامتداده ومساحته، ودور الخلافة العثمانية في بيع أجزاء واسعة منه لأثرياء عائلة سرسق اللبنانية، ثم تمرير مساحات منه في صفقات بيع سرية، وفرتْ للحركة الصهيونية فرصة لإقامة المستوطنات الزراعية الأولى، وتعرضتْ قرى فلسطينية عديدة في المرج، منذ ثلاثينيات القرن الماضي، للإخلاء بموجب صفقات البيع.

وأبرز الدكتور كمال خصوصية سهل عكا، والسهل الساحلي والأغوار الفلسطينية، وأسباب تشكل البحر الميت ومجرى نهر الأردن والحفرة الانهدامية التي امتدت على طول النهر حتى العقبة في جنوب الأردن.

تواصلتْ رحلات الدكتور كمال طوال ثماني سنوات حتى اندلاع الانتفاضة الأولى أواسط كانون أول/ ديسمبر 1987 وقيام الاحتلال بنصب الحواجز العسكرية، وتقييد مرور المواطنين وحركة تنقل الحافلات. كانت الرحلة تستغرق أربعة أيام لا يتوقف فيها الدكتور كمال عن ربط تاريخ فلسطين بتضاريسها الجغرافية وسهولها وجبالها ومدنها وقراها المدمرة.

الدكتور كمال عبد الفتاح في إحدى رحلاته الميدانية في أرجاء فلسطين أواسط الثمانينات.

حضر الدكتور كمال سنة 1981 مؤتمرًا في العاصمة عمّان حول تعليم طلبة الأردن في الجامعات الألمانية بحضور الأمير حسن ولي العهد ووزير التربية الألماني. وقف البروفيسور صالح قعدان، من طولكرم وخريج الجامعات الألمانية، وقدم مداخلة جريئة حول حصر منح الدراسة الألمانية بالجامعات الأردنية، وتغييبها عن الجامعات الفلسطينية، وإهمال حق طلبة فلسطين في الحصول على المنح الضرورية للنهوض بالجامعات الفلسطينية الفتية. دافع البروفيسور قعدان بشجاعة عن حق الجامعات الفلسطينية، ولم يقلق من وجود ولي العهد وأجهزة الأمن. اقترب مستشار الوزير الألماني من الدكتور كمال، ونقل له رغبة الوزير بلقائه بمعزل عن البروفيسور "المشاغب".

التقى الدكتور كمال بالوزير الألماني، وتم تقسيم نحو عشرين منحة دراسية بالتساوي بين الجامعات الأردنية والفلسطينية، وبات الدكتور كمال مرجعية للمنح الألمانية، وقدمها بموضوعية لمن يستحق من الطلبة المتفوقين لإكمال دراساتهم العليا في الجامعات الألمانية.


 اقرأ/ي أيضًا: