21-أكتوبر-2021

الدكتور كمال عبد الفتاح في شرفة منزله بجنين (صورة: مجاهد بني مفلح)

كتب بسّام الكعبي في الجزء الأول من هذه السلسلة عن عائلة الجغرافي كمال عبد الفتاح ونشأته، ودراسته الابتدائية والثانوية، وعن تقديمه التوجيهي المصري صيف 1960، وواصل في الجزء الثاني الحديث عن التحاقه بقسم الجغرافية في كلية آداب جامعة دمشق 1960، وعن رحلته إلى البادية السورية برفقة أستاذه الألماني، وصولًا إلى إنجازه مشروع تخرّجة عن مدينة جنين.

وفي الجزء الثالث، روى الكعبي سيرة شيخ الجغرافيين الفلسطينيين، ابتداءً من تعيينه معلّمًا في وزارة التربية والتعليم الأردنية، مرورًا بجولاته في جبال عسير جنوب غرب السعودية، ثم انتقاله لجامعة بيرزيت، وتنظيمه رحلات استكشافية لطلبته في أرجاء فلسطين. 

وفي هذا الجزء (الأخير) يتحدّث الكاتب عن لقائه الأول بالدكتور كمال على بوابة سجن نابلس القديم، وعن إدارته لمركز أبحاث جامعة بيرزيت، وخطّته لتغيير نوع نشاط المركز، وقيادته فريقًا للتنقيب في بقايا القرى المدمّرة الواقعة وسط وشمال فلسطين، وعن تقاعده من الجامعة، ويعرّج على مؤلفاته، ويتحدّث عن رغبته: 


زار الدكتور كمال عبد الفتاح مطلع الثمانينات جامعة جورج تاون الأمريكية، وتعرّف فيها على الدكتور (توماس ريكس) أستاذ التاريخ الشفوي في الجامعة، وعرض عليه وظيفة في بيرزيت. أسس الدكتور ريكس لمنهج التاريخ الشفوي في الجامعة، وساهم بوضع استبيان لطرح الأسئلة على اللاجئين الذين تمّ طردهم من قراهم تحت تهديد سلاح المليشيات الصهيونية، ودرّب مجموعة من مساعدي البحث بغرض توثيق تجارب المهجّرين قسرًا من قراهم ومدنهم الفلسطينية.

 قاد الدكتور كمال عبد الفتاح منذ ربيع 1987 فريقًا للتنقيب في بقايا القرى المدمّرة الواقعة وسط وشمال فلسطين 

التقيتُ الدكتور كمال لأول مرة أواخر سنة 1981 على بوابة سجن نابلس القديم، وعرفته عن بُعد عندما دخلتُ مبنى دائرة دراسات الشرق الأوسط في حرم جامعة بيرزيت القديم، وكنتُ قد تسلّمتُ وظيفتي في مركز أبحاث الجامعة أواسط أيار/ مايو 1981. عندما التقيته صدفة على بوابة سجن نابلس القديم، كنتُ في زيارة شقيقي الأسير الفتى أحمد، وكان في زيارة شقيقه الأسير: اعتقل الشاب كامل جبر أواخر آذار/ مارس 1971 عندما كان في العشرين من عمره، وأمضى 15 سنة في معتقلات الاحتلال، وتنقّل بين سجون جنين، بيت ليد، عسقلان، بئر السبع والجنيد، وتحرر أواخر أيلول/ سبتمبر 1985. واظب الدكتور كمال على زيارة شقيقه الأسير بانتظام، وتلمّس معاناة ذوي الأسرى، وظلّ حريصًا على السؤال عن شقيقي كلّما التقيته. عُيّن كامل سنة 1994 في دائرة التوجيه السياسي عقب قيام السلطة الوطنية، ونال الأسير المحرر تقاعدًا مبكرًا من وظيفته، وظلّ وفيًّا لرفاقه مخلصًا لمبادئه الكفاحية في الحرية والعدالة.

تسلّم الدكتور كمال سنة 1985 إدارة مركز أبحاث جامعة بيرزيت، وقدّم خطة لتغيير نوع نشاطه من توثيق الصحف الفلسطينية وإعادة تصنيف وطباعة الوقائع بمجلدات فصلية تحت إدارة الأستاذ خليل محشي، إلى جمع الرقم الإحصائي من سكان الضفة الغربية وقطاع غزة بإدارة بكر أبو كشك. وافق مجلس أمناء الجامعة برئاسة حنّا ناصر على خطة الدكتور كمال، وأقرّ الأمر في اجتماع عقد في قبرص، وبات المركز متخصصًا بتوثيق القرى الفلسطينية المدمّرة، وطبع أول خارطة لفلسطين تضمّنت مواقع وأسماء القرى المهجرة، فيما تابع طاقم المركز إصدار سلسلة كتب وثقتْ تاريخ مجموعة قرى مدمرة، وأخرى رصدتْ سيرة شخصيات فلسطينية تربوية وكفاحية، قبل أن يتم تفكيك المركز وتجميد نشاطه سنة 1994.

حصل الدكتور كمال سنة 1982 على "جائزة شومان" للشباب قبل أن يتجاوز الأربعين، وتقاسم الجائزة مع اللبناني مسعود ظاهر.

كمال عبد الفتاح يسرد التاريخ والجغرافية خلال إحدى رحلاته الميدانية في أرجاء فلسطين أواسط الثمانينات، إلى جانبه الدكتور نظمي الجعبة، وفي المقعد الخلفي أستاذ التاريخ، ألبرت أغازريان.

قاد الدكتور كمال عبد الفتاح منذ ربيع 1987 فريقًا للتنقيب في بقايا القرى المدمّرة الواقعة وسط وشمال فلسطين، فيما قاد الدكتور شريف كناعنة فريقًا لتوثيق القرى المدمرة في وسط وجنوب فلسطين، وقاد الدكتور غازي فلاح فريقًا مساندًا لتحديد مواقع القرى الفلسطينية التي يصعب الوصول إليها، وتم نشر بيانات الفريق الميدانيّ إضافة إلى سلسلة من الوقائع والأحداث والإحصائيات في كتاب (كي لا ننسى) بتوقيع الدكتور وليد الخالدي وطاقم البحث، وصدر الكتاب في تشرين ثاني/ نوفمبر 1997 عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت باللغتين العربية والانجليزية.

يعتبر كتاب (كي لا ننسى) مرجعًا في حقل تخصصه، وقد وقع في 846 صفحة من الحجم الكبير بغلاف مميّز، وتضمن مجموعة كبيرة من الصور والخرائط، وأنجز الكتاب كما ورد في التقديم عقب قيام "تعاون نموذجي بين كل من جامعة بيرزيت ومركز الجليل للأبحاث ومؤسسة الدراسات الفلسطينية، وساهم فيه أكثر من ثلاثين باحثًا، واستغرق ستة أعوام، واستند هذا العمل الضخم إلى وفرة من المصادر العربية والأجنبية وإلى البحث الميداني من أجل تحديد مواقع القرى تحديدًا دقيقًا" وأوضح التقديم "يحتوي المدخل المخصص لكل قرية على مقطع يستند إلى روايات إسرائيلية وعربية، ووصف لحال لموقع الحاضرة وما بقي من بقايا معالمها". يعتبر (كي لا ننسى) الصادر في بيروت بعد خمسين سنة على النكبة الكبرى عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية "أشمل عمل صدر حتى الآن عن تدمير المجتمع القروي الفلسطيني".

شارك الدكتور كمال سنة 1991 في يوم دراسي في مدينة عكا بدعوة من الدكتور والمؤرخ شكري عرّاف، بمناسبة مرور 700 سنة على قيام الأشرف خليل بن قلاوون بطرد الصليبيين من عكا، وشارك في اليوم الدراسي نحو 150 مُعلّمًا ومعلمة ومجموعة من الباحثين والأكاديميين المهتمين في التاريخ، وعرض الدكتور عرّاف وقائع انتصار الأشرف بن قلاوون.

خرج السلطان ابن قلاوون من القاهرة على رأس جيش كبير، وحاصر عكا مساء 5 نيسان/ ابريل 1291 بستين ألف فارس ومائة وستين ألفًا من المشاة؛ بمساندة جيش دمشق، جيش حلب، جيش طرابلس وجيش الكرك. دكّ السلطان أسوار عكا بقذائف المنجنيق، واستسلمتْ المدينة أواسط أيار/ مايو 1291، وهرب الفرنجة في المراكب نحو قبرص، ثم استسلمتْ تباعًا حيفا، عتليت، صور، صيدا، بيروت وطرطوس وبات ساحل المتوسط تحت سيطرته، واتجه لمحاربة المغول في العراق واستولى على قلعة الروم في شاطئ الفرات قبل عودته منتصرًا إلى القاهرة، ويتربع على عرش المماليك الترك الذين حكموا مصر والسودان وبلاد الشام نحو 130 سنة (1250- 1382). تسلم الأشرف السلطة عقب وفاة والده سنة 1290، وحكم ثلاث سنوات حرر فيها بلاد الشام من بقايا الصليبيين، وقاتل المغول قبل أن يقتل غدرًا خلال رحلة صيد قرب الإسكندرية؛ عقب صراع مرير انفجر بين أمراء المماليك بغرض الاستئثار بالسلطة والانفراد بالحكم.

 تقاعد الدكتور كمال من جامعة بيرزيت سنة 2008 لكنّه ظل يحاضر في جغرافية فلسطين كأستاذ غير متفرّغ حتى بدايات 2020 

تقاعد الدكتور كمال من جامعة بيرزيت سنة 2008 لكنّه ظل يحاضر في جغرافية فلسطين كأستاذ غير متفرّغ في الجامعة حتى بدايات 2020، ووضع الطلبة والخريجين في الوقائع التاريخية والجغرافية التي تعيشها فلسطين المحتلة بعد سبعين سنة ونيف من هجمة الاستيطان وعمر النكبة الكبرى: يعيش ثمانية ملايين نسمة في 2250 تجمّعًا بشريًا، منها 970 مدينة وقرية ومخيم في الضفة الغربية والقدس والنقب والجليل والمثلث يعيش فيها ثلاثة ملايين فلسطيني، وقد أباد الكيان المغتصب عقب النكبة الكبرى 418 قرية وخربة فلسطينية وشرد 800 ألف فلسطيني من بيوتهم ودفع جزءًا كبيرًا إلى الشتات.

اقرأ/ي أيضًا:
نسوة الشالات السود

نشر الدكتور كمال (النظم الجغرافية التاريخية) و(الجغرافية التاريخية لفلسطين وشرق الأردن وجنوب سوريا ولبنان في القرن السادس عشر ميلادي) و(مزارعو الجبال والفلاحون في عسير) و(التطور الاقتصادي الفلسطيني في الفترة العثمانية المتأخرة) ونشر ورقة بحث في مجلة الدراسات الشرق أوسطية للجامعات الأمريكية تحت عنوان (قرى الكراسي في جبال فلسطين الوسطى) وشارك في ستة مؤتمرات في سوريا بين 1974- 1984، ونظّم مؤتمرات وندوات وأيام عمل دراسية في جامعة بيرزيت.

أواسط تموز/ يوليو 2000 كنتُ محظوظًا ومجموعة من طلبة وأساتذة جامعة بيرزيت بمشاركة الدكتور كمال عبد الفتاح في رحلة علمية إلى ألمانيا، وربط جغرافية البلاد الواسعة بتاريخها بشكل مثير، وتدفقتْ معلوماته الغزيرة عن ألمانيا بمستوى لا يقل غزارة عن المعلومات التي سردها عن فلسطين أثناء التجوال برفقته أواسط الثمانينات. 

 عبّر الدكتور كمال مرارًا عن رغبته في العثور على فريق فلسطيني من الباحثين والمؤرخين والجغرافيين؛ لتتبع طريق الحرير ورصد مساره الجنوبي 

لمستُ انشغاله، في ألمانيا وفلسطين، بأقدم طريق في تاريخ البشرية (طريق الحرير) وقد أطلق التسمية الجغرافي الألماني فرديناند ريتشهوفن سنة 1877 على طريق بري يمتد من شمال الصين حتى سواحل بلاد الشام وشمال افريقيا بغرض نقل الحرير إلى سكان القارات القديمة، وقد اشتهرتْ صناعته في الصين منذ ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد. 

عبّر الدكتور كمال مرارًا عن رغبته في العثور على فريق فلسطيني من الباحثين والمؤرخين والجغرافيين؛ لتتبع طريق الحرير ورصد مساره الجنوبي الذي يتجه نحو تركستان والعراق وسوريا وساحل المتوسط ويتابع باتجاه مصر وسواحل شمال افريقيا مقتربًا من سواحل اسبانيا، وتأمّل أقدم حركة تجارة برية في تاريخ البشرية.

لا نملك سوى الدعاء للدكتور كمال بعمر مديد، ودوام الصحة والعافية ليشهد انتصار فلسطين وزوال الاحتلال، وتحقيق رغبته في إعادة استكشاف طريق الحرير وتتبع مساره الجنوبي ميدانيًا، عبر اختراق بلاد الشام ومصر وسواحل شمال افريقيا حتى مضيق جبل طارق شمال المغرب.