21-مارس-2021

"شيخ الجغرافيين الفلسطينيين كمال عبد الفتاح في منزله بمدينة جنين 2020 (تصوير: مجاهد بني مفلح)

دعا الدكتور كمال عبد الفتاح مطلع تموز 1987 نجله البكر الشاب قيس لمرافقته في رحلة من جنين إلى بلدة حطين غربي بحيرة طبرية؛ للمشاركة في الاحتفاء بمرور 800 سنة على معركة تاريخية شهدها سهل حطين بين قوات صلاح الدين الأيوبي وقوات الفرنسي دي لوزينيان ملك القدس.

رأى كمال النور في مسقط رأسه (أم الفحم) فجر 9 شباط 1943، وحمل اسم حامولة (جبارين) التي استقرتْ في أم الفحم منذ حقبة طويلة

سجّل يوم السبت 4 تموز 1187 تفاصيل ووقائع معركة فاصلة بين "الدولة الأيوبية" و"مملكة القدس" في نطاق مواجهة الحملة الثانية من الحروب الصليبية (1096-1291) التي تواصلتْ نحو 200 سنة واستهدفتْ المسلمين، المغول، السلاف، الأرثوذكسية اليونانية، الوثنيين والمعارضة السياسية لبابا روما. 

اجتازتْ قوات الناصر صلاح الدين الأيوبي مطلع تموز 1187 نهر الأردن، وتمركزتْ في الجانب الجنوبي الغربي لبحيرة طبرية بين قرى حطين، نمرين، لوبيا، الشجرة وكفرسبت، ودارتْ معركة شرسة بالرماح والسيوف والسهام، انتهتْ بانتصار قوات صلاح الدين، والسيطرة على موقع قائد الفرنجة ريموند على تل مرتفع يعرف باسم (قرن حطين). واصلت قوات الناصر صلاح الدين تحرير معظم مدن الساحل بيروت، صيدا، عكا، قيسارية، يافا وعسقلان باستثناء طرابلس وصور، ومهّد الانتصار في المعركة التاريخية حصار بيت المقدس، وتمكّن الأيوبي من فتحها مطلع تشرين أول 1187 بعد 88 سنة على احتلالها العام (1099). 

وقع ملك القدس لوزينيان في الأسّر، ووضع صلاح الدين شرطًا لإطلاق سراحه بالعودة إلى فرنسا، لكنّه استقر في قبرص وأسس فيها حكمًا لعائلته، فيما نادى بابا روما لتجهيز الجيوش من أجل حملة صليبية ثالثة انطلقت نحو سواحل بلاد الشام سنة 1189.

  في سهل حطين، وقف الدكتور كمال عبد الفتاح على صخرة مرتديًا كوفيّته الفلسطينية البيضاء، وعرض على نجله قيس تفاصيل المعركة التاريخية التي دارت قبل 800 سنة 

في سهل حطين، وقف الدكتور كمال عبد الفتاح على صخرة مرتديًا كوفيّته الفلسطينية البيضاء، وعرض على نجله قيس (1970) تفاصيل المعركة التاريخية التي دارت قبل 800 سنة بالضبط في سهل واسع يقع تحت تلة مرتفعة أقيمت عليها بلدة حطين، قبل أن يدمّرها الاحتلال الإسرائيلي أواسط تموز 1948 ويحوّل سكانها إلى لاجئين في الوطن والشتات.

من فوق الصخرة المشرفة، تجادل المعلم كمال مع سائح إيطالي وصل من بلاد هجرته في استراليا لمعاينة مقتل أحد أسلافه في المعركة، فيما انتهز مراسل صحيفة (كول هعير) العبرية فرصة المواجهة والتقط صورة لأبي قيس، وسجل جانبًا من نقاشه حول وقائع المعركة وتناحر الروايات التاريخية، ونشر قصّته الصحفيّة على غلاف الجريدة العبرية (صوت المدينة)، في حين انتظر الأستاذ كمال طويلًا وصول حافلة من طلاب جامعة بيرزيت لإسناده، كما اتّفق ورتّب الأمر مع محاضر متخصص في التاريخ السياسي؛ لكن الظروف عاندتْ طلبة التاريخ وأستاذهم، وغاب عن المشهد التاريخي كل أبناء فلسطين باستثناء كمال ونجله، بينما حضر المئات من الشباب الغربيين؛ لاستعادة تاريخ هزائم أسلافهم ودحر الغزاة عن وطن لا ينكسر، لا يرفع راية بيضاء، وسيظل عصيًا على الاستيطان والعنصرية والانكسار.

أين نشأ الدكتور كمال عبد الفتاح؟ مدى أثر والده المعلّم في مسيرته الشخصية؟ أين تَعلّمَ وعَلّمَ وسافر وتَنقّل وحاضَر وكَتب؟ كيف ربط الأستاذ البارع تاريخ فلسطين بالجغرافية؟ هل تمكن من الوصول إلى كل موقع في فلسطين من البحر غربًا إلى النّهر شرقًا ومن الناقورة شمالًا إلى أم الرشراش جنوبًا؟ 

رأى كمال النور في مسقط رأسه (أم الفحم) فجر 9 شباط 1943، وحمل اسم حامولة (جبارين) التي استقرتْ في أم الفحم منذ حقبة طويلة، وتقاسمتْ النفوذ مع حمائل (محاميد) (محاجنة) (اغبارية) باعتبارها المكوّن الأساسي للبلدة التي كانت أكبر قرى جنين خلال الاحتلال البريطاني. استقر جدّه عبد الفتاح، مختار حامولة الجبارين، في طيبة أم الفحم على السفوح الشرقية لجبل إسكندر، ولم تزل ذاكرة كمال تحتفظ بتضاريس البلدة القديمة، المغاور البيزنطية، عيون الماء، مجرى المياه بين الحجارة والصخور وبرك مياه يغطس بها مع الصغار للسباحة.

لجأ كمال مع والدته وشقيقتيه الصغيرتين سناء وسوسن للإقامة مع والدهم في سيلة الحارثية؛ قبل بدء تنفيذ اتفاق (رودس) مطلع شباط 1949

تزوج والده جبر مطلع الأربعينات عقب تخرجه من الكليّة العربية في القدس، وتم تعيينه معلمًا للجغرافية في مدارس فلسطين، وعندما وقعتْ النكبة الكبرى أواسط أيار 1948 كان والده أستاذًا في مدرسة سيلة الحارثية قرب جنين. 

لجأ كمال مع والدته وشقيقتيه الصغيرتين سناء وسوسن للإقامة مع والدهم في سيلة الحارثية؛ قبل بدء تنفيذ اتفاق (رودس) مطلع شباط 1949 بين الأردن والكيان المغتصب، سيطر بموجبه الكيان المحتل على (أم الفحم) وبلدات منطقة المثلث الفلسطيني الشمالي والجنوبي، فيما وقعتْ ثلاثة أرباع فلسطين بقبضة العصابات الصهيونية. ضم الملك عبد الله الأول الضفة الغربية وأخضعها للسيادة الهاشمية عقب مؤتمر أريحا أواخر 1950 فيما أخضع الملك فاروق قطاع غزة للسيادة المصرية!

انتظم كمال سنة 1950 مع طلاب الأول ابتدائي في مدرسة سيلة الحارثية، وشاهد لأول مرة "القطن الأبيض" يسقط بغزارة على منطقة جنين سنة 1951 فيما عرف لاحقًا في الأوساط الشعبية الفلسطينية بالثلجة الكبرى، وقد عانى من تراكمها الطويل اللاجئون في مناطق نابلس ورام الله والقدس وبيت لحم والخليل. أغلقتْ الثلجة الكبرى الطريق أمامه لزيارة والدته المريضة في مستشفى (اوغستا فيكتوريا) أو (المطلع) في القدس، واضطر للانتظار عشرة أيام حتى تمكن من زيارتها برفقة والده، وعلم أن والدته خسرتْ شقيقته الرضيعة التي لم تتجاوز الشهرين، وتم دفنها في القدس بمساعدة أهالي المدينة العريقة، وساندتها في محنتها امرأة من بلدة عرابة جنوب جنين كانت تتلقى العلاج في مستشفى (المطلع).

شارك سنة 1954 في رحلة طلابية بإشراف والده، شاهد فيها عمّان، والمدرج الروماني، وفندق فيلادلفيا، وجرش وقلعتها الشهيرة والكرك ومعظم مناطق جنوب الأردن وصولًا إلى العقبة، واستمع في الرحلة إلى شرح عن الأغوار، نهر الأردن، جبال الضفة الشرقية، البادية وتاريخ الأنباط، واحتجز طالب في الحادية عشرة من عمره كل المعلومات في ذهن متّقد، وقد نقل والده المعلم جبر عبد الفتاح تجربة الرحلات الجغرافية الميدانية من أستاذه درويش المقدادي؛ الذي نظم رحلات جغرافية لطلابه في أرجاء فلسطين سنة 1925.

حصل كمال سنة 1958 على شهادة (المترك) وكانت وزارة التربية الأردنية تشترط على المتقدمين للامتحان إنهاء متطلبات إحدى عشرة سنة دراسية

حصل كمال سنة 1958 على شهادة (المترك) وكانت وزارة التربية الأردنية تشترط على المتقدمين للامتحان إنهاء متطلبات إحدى عشرة سنة دراسية. تفوّق في الامتحان بامتياز، وحجز مقعدًا في لائحة العشرة الأوائل على مستوى المملكة، ونال المرتبة الأولى في مادة الكيمياء، وضمن منحة لدراسة الكيمياء في الجامعة الأميركية في بيروت، لكنّه تأخّر عن موعد مقابلة اللجنة الوزارية في مدرسة (الملكة زين الشرف) في عمان، وعرضتْ عليه اللجنة منحة لدراسة الكيمياء في جامعة أنقرة التركية.

اقرأ/ي أيضًا: إرث المعركة.. فدائيو الواد الأحمر

غادر أواسط شتاء 1959 من عمّان إلى دمشق وحلب في طريقه إلى أنقرة برفقة الطالبين متري يوسف كبوشي ونصوح سالم المجالي ابن شقيقة رئيس الوزراء الأردني هزاع المجالي، انتظر في محطة قطار (الشرق السريع) وتأخر القطار كثيرًا عند مغادرته بغداد بسبب محاولة انقلاب على الرئيس العراقي عبد الكريم قاسم.

غادر الطلاب الثلاثة القطار في محطة أنقرة، وحجزوا فندقًا، وعلموا أنهم مقابل البرلمان التركي عندما شاهدوا الأعضاء يرشقون بعضهم بالكراسي، وشاهدوا في شارع (كيزي لاي) الرئيسي لافتات حزب الحرية تحمل شعار (عدالة حرية مساواة).

لم يتمكن كمال من التفاهم مع مسؤول قسم الكيمياء باللغة التركية القديمة وبخاصة أن المحاضر لا يجيد اللغة الإنجليزية، واتجه الطلاب الثلاثة بعد أيام إلى السفارة الأردنية في أنقرة، وقابلوا الملحق الثقافي (سالم العطار) ثم قابلوا السفير الذي نصحهم بتعلم اللغة التركية.

قرر الطلاب الثلاثة العودة إلى عمّان بعد شهرين من الإقامة في أنقرة، لصعوبة تعلمهم اللغة التركية خلال فترة قصيرة لضمان الالتحاق بكلياتهم. راجعوا الأستاذ محمد نوري شفيق أحد مسؤولي الوزارة في عمان، وقرر نصوح المجالي متابعة دراسته الجامعية في إيران، ومتري كبوشي قرر دراسة الصيدلة في جامعة دمشق، واعتذر عن قبول المنحة لأنه لا يحتاجها، وعاد كمال إلى جنين ليدرس المنهاج المصري في  (النجاح) بمدينة نابلس، تحت إشراف مدير الكلية قدري طوقان، استعدادًا لتقديم التوجيهي المصري مطلع صيف 1960. 

يتبع..