23-فبراير-2018

الخامس من أغسطس لعام 2014: أطبق وحش "الحرب" فكَّيه على (1865) شهيدًا ارتقوا على مدار 29 يومًا من تاريخ أول غارةٍ استهدفت قطاع غزة.

تمام السادسة صباحًا، دوّى صوت القذيفة الأخيرة..

"بدأت هدنة عيد الفطر"، قالتها "منال صبح" لزوجها بلهفة! ثم سكتت كمن تنبّه إلى شيء ما.. بسرعةٍ عادت بذاكرتها إلى حيث بيتها هناك في "حي الشجاعية" شرقًا قد سُوي بالأرض! وأنّ همّ زوجها النازح وعائلته إلى غرب المدينة لن يحتمل ما كانت تجهّز لطلبه منه بعد تلك العبارة..

عند أول عتبة، هرولت "منال" نحو الطابق الثاني حيث مختبر زراعة الأنسجة.. دخلت الغرفة، ثم بدأت تتفقّد قوارير التجارب واحدةً تلو الأخرى، لتزفر بعدها كمن أنزل عن كاهله للتو صخرة! نبتة "الاستيفيا" بخير..

خمس دقائق.. غرق الاثنان خلالها بدوامة صمت! التفت إليها فجأةً وابتسم، ثم طلب منها أن تجهّز نفسها للخروج: "أعرف أنك تودّين الاطمئنان على الكنز الذي تخبئينه في الوزارة"..

مضى الاثنان يتلمّسان طريقهما وسط أنّات المستفيقين توّاً من عمليات استئصال الأحبة! يلقيان التحية على كل حجرٍ صمد في وجه النار، هكذا حتى وصلا إلى بوابة وزارة الزراعة الرئيسية في شارع "المشتل" غربًا.  

عند أول عتبة، هرولت "منال" (وهي مهندسة زراعية) نحو الطابق الثاني حيث مختبر زراعة الأنسجة.. دخلت الغرفة وقد اغرورقت عيناها بدموع "الحمد"، ثم بدأت تتفقّد قوارير التجارب واحدةً تلو الأخرى، لتزفر بعدها كمن أنزل عن كاهله للتو صخرة! نبتة "الاستيفيا" بخير..

المهندسة الزراعية منال صبح
المهندسة الزراعية منال صبح

اقرأ/ي أيضًا: "الفييجوا" في غزة.. العين على الاكتفاء ثم التصدير

"شكرًا يا الله.." تمتمت وهي تتفحص غرسةً لم يتجاوز طول ساقها السانتيمتر الواحد داخل "الجار" (قارورة التجربة)، كانت قد كوّنت مجموعًا جذريًا، وحان وقت دخولها مرحلة "الأقلمة" (أي نقل النبتة من بيئتها إلى بيئة جديدة، وهي مهمة تتم كل شهر ونصف الشهر تقريبًا)، تعلّق بالقول: "كان الوضع صعبًا أول أيام الهدنة، وكان إعداد بيئة تناسب الاستيفيا صعبًا ويحتاج إلى وقت طويل، لهذا قررتُ أن أجازف فإن كانت خسارة، فهي خسارة تتبع شرف المحاولة ، فأنا إن تركتها كانت ستموت في كل الأحوال بسبب ظروف الحرب.. قررتُ زراعتها في بيئة نخيل".

كان ذلك يوم.. واليومُ يومٌ آخر أعلنت فيه الوزارة نجاح زراعة تلك النبتة الأحلى من السكر الخام بثلاثمئة مرة، والتي تُعامَلُ عالميًا على أنها "العلاجُ المضمون" لمرضَيْ السكر والضغط المرتفع عبر تقنية "زراعة الأنسجة".

سلة غذائية!

وصلت نبتة "الاستيفيا" غزة عندما هبّ على بال الموظفة في قسم زراعة الأنسجة التابع لوزارة الزراعة "منال صبح" زيارة جامعتها "قناة السويس" بمصر عام 2010، والتي تخرجت منها عام 1991، كي تسأل عن آخر ما توصل إليه المصريون في تجارب زراعة النخيل عبر تقنيات زراعة الأنسجة، لتُفاجأ هناك بنبتةٍ أخبرها أحد المسؤولين في القسم بأن اسمها "استيفيا"، وهي مُحلٍّ طبيعي، وتشكّل اليوم 40% من إنتاج السكر في كل من اليابان والصين! ثم طفق يتجوّل بعقلها المشدوه بين معلوماتٍ بحثية محكمة حول ما تحمله الورقة الواحدة منها من عناصر غذائية هامة كالبروتينات والفيتامينات (أ) و(ج)، والكثير من العناصر الكيميائية كحمض الاسكوربيك، والاسترونيولين، والبيتاكاروتين، والكالسيوم، والحديد، والمغنيسيوم والمنجنيز والبوتاسيوم والزنك!

دون أدنى تفكير، سألت: "هل يمكنني أن آخذ منها عينة؟"، أجابها "لا بأس بذلك"، لتعود إلى غزة ومعها قارورتين اثنتين فيهما "استيفيا" تعيش مرحلة النمو الأولى.

اقرأ/ي أيضًا: فيديو | هل تحل اﻷفوكادو مكان الجوافة في "استوائية فلسطين"؟

هنا، بدأت "منال" ومعها بعض العاملين في القسم يقضمون الكتب، ويطوون صفحات الانترنت طيًا، بحثًا عن مزيدٍ من المعلومات حول "النبتة الخارقة تلك"، ليصلوا أخيرًا إلى نتيجة تقول: "هذه النبتة يجب أن تصل إلى غزة، هذه النبتة ستحل الكثير من المشكلات الصحية هنا".

النبتة "الحلوة" التي لا تحتوي على السكر أو أية سعرات حرارية، كون "الاستيفيوزيد" يشكل من 6% إلى 18% من وزن أوراقها، تساعد على تخفيف الوزن وخفض الشهية للأطعمة الدسمة والحلويات! تخيّلوا! كما أن 10 نقاط من محلول مركّز أوراقها قبل وجبة الطعام بثلث ساعة تقضي تمامًا على الشعور بالجوع، والرغبة بالتدخين أيضًا! فيما يساعد تناول 20 نقطة من مركز العشبة، على توازن مستويات السكر في الدم خلال فترة قصيرة، كما تؤدي إلى زيادة النشاط وتوقد الذهن وتحسين الهضم وتقوية جهاز المناعة"!

طبيبٌ أخضر

أول من جرّبت معه منال فعالية النبتة كان والدها مريض السكري، الذي كان -ككل أصحاب هذا المرض- كلما تناول السكر يرتفع مستواه في دمه، ثم يعود لينخفض مجددًا بعد هضمه، فيطلب استهلاكه مجددًا، وكانت النتيجة أن "الاستيفيا" جعلت من تدفق الطاقة ثابتًا، ووازنت مستوى السكر لديه!

تعقّب: "يحتاج الأمر فقط إلى مداومة، وانتظام، والتزام حديدي بالعلاج الدوائي أيضًا.. بعد استخدامها بوقتٍ قصير بدأ والدي يشعر بانتهاء أعراض المرض، لا برودة في الأطراف، ولا خدلان! ولا دوخة أيضًا".

وتردف بالقول: "من الفوائد الفعالة للنبتة قدرتها على مساعدة مرضى الإنفلونزا واحتقان الحلق، وعلاج الكثير من الأمراض الجلدية كالتهاب الجلد والأكزيما، كما أنّ منقوعها خير غسولٍ للأسنان، إذ يساعد في منع تكون طبقات الجير أو التهاب اللثة أو نمو وتكاثر البكتيريا داخل الفم".

وتقول البحوث عن النبتة، إن أوراقها يمكن أن تستخدم في تحلية المشروبات الباردة والساخنة والغازية أيضًا "سيما التي تعتمد على عصائر الفاكهة"، بالإضافة إلى المربيات والزبادي الحلو والبسكويت والعلكة أيضًا، وحسب التجارب فقد نالت كلها قبول المستهلكين!

ولا تتأثر قوة تحلية الاستيفيا بالتقادم، ويتجاوز عمرها عند التخزين عدة سنوات، فيما أكدت الكثير من الأبحاث أنها (الاستيفيا) نبتة غير سامة البتة، "ومستخلصها غير قابل للتخمر أبدًا".

الاستيفيا تحتضر!

اليوم نجح مختبر الأنسجة فعليًا من إكثار نبات "الاستيفيا" مخبريًا، وإن تجاوزنا فكرة أنّ هذا "الكنز" كان سيُردم وقت الحرب فعلًا مع الكثير من أحلام الشهداء وقصصهم وذكرياتهم، تعيش النبتة اليوم في قوارير التجارب فوق أرفف المختبر وضعاً كارثيًا بسبب فترات انقطاع التيار الكهربائي الطويلة التي تعم أرجاء قطاع غزة منذ أكثر من ثمانية أشهر! على الهامش، تراقبها منال صبح بنظرات متحسرة، وتدعو الله كلّما دخلت الدفيئة التي غرست في تربتها "كنز الوزارة" أن يحفظ الحوض وما فيه، حتى يتسنى زراعة "الاستيفيا" في كل بيتٍ بغزة.

استيفيا ميتة في مختبر زراعة الانسجة بوزراة الصحة بسبب أزمة الكهرباء
استيفيا ميتة في مختبر زراعة الانسجة بوزراة الصحة بسبب أزمة الكهرباء

في الدفيئة المحصنة بقفل، لا تتجاوز مساحة حوض "الاستيفيا" بضعة أمتار، قالت المهندسة صبح إنها قصت معظم الأشتال قبل وقتٍ قريب بعد تمام النمو، تحديدًا حين وصل ارتفاع الواحدة إلى نصف متر، وأخضعتها لعملية تجفيفٍ صناعية "كي يتسنى استخدامها على المدى البعيد".

حوض لزراعة الاستيفيا بغزة

العشبة العطرية المذهلة، تعود حلاوتها إلى طبيعتها التي تحتوي على جزئيات سكرية، رغم أنها لا تحتوي على سكر! موطنها الأصلي "البراغواي"، وكان السكان الأصليون يستخدمونها في التحلية، أو كمهضم، أو كعلاج موضعي للجروح منذ أكثر من 1500 سنة.


اقرأ/ي أيضًا:

فيديو | أناناس في غزة

الضفة الغربية: زراعة الدخان "عادي" وتجارته ممنوعة

محاضر جامعيّ صباحًا ومزارع جوافة مساءً