03-أبريل-2020

"هل تتعامل السلطة الفلسطينية مع تفشي فايروس كورونا بكفاءة؟"، هذا هو السؤال الشائع بين فلسطينيي الضفة الغربية حاليًا. في مقالي هذا، لن أقترب من هذا النقاش، بس سأجابهه بطرح آخر أكثر راديكالية: "أليست الرعاية الصحية للمجتمع المستعمَر مسؤولية سلطات الاستعمار؟".

لا يخلق هذا النهج واقعًا سيئًا على الأرض فحسب، بل يساهم في سوء توصيف الحالة السياسية للبلاد بشكل مروع

طوال حياتي، لم أؤمن يومًا بفكرة إقامة سلطة حكم ذاتي في بلادٍ لم تفكك بها المنظومة الاستعمارية الاستيطانية بعد. لا يخلق هذا النهج واقعًا سيئًا على الأرض فحسب، بل يساهم في سوء توصيف الحالة السياسية للبلاد بشكل مروع.

اقرأ/ي أيضًا: أهل القدس يواجهون مصيرهم وحدهم خلال الوباء

في السياق الفلسطيني-الإسرائيلي، تجسدت تلك الفكرة عبر إقامة السلطة الفلسطينية عام 1994، والتي مُنحت صلاحيات ضئيلة لإدارة شؤون التجمعات المقصاة والمكتظة بالسكان المحليين واللاجئين في الضفة الغربية وقطاع غزة. فبدلاً من حالةٍ استعماريةٍ كلاسيكيةٍ، باتت ملامح القضية تبدو كنزاع بين دولتين على قطعة من الأرض، فلسطين و"إسرائيل"، أو دولة تحتل أراضٍ من دولة أخرى، في أفضل الظروف.

لم أؤمن يومًا بالدور الوظيفي للسلطة الفلسطينية، والتي باتت تسمي نفسها بـ "دولة فلسطين" منذ عام 2012. أيقنت دائمًا أنها كانت خطوة إسرائيلية عبقرية للتخلص من أعباء مسؤوليات المجتمع المستعمَر المقصى، وعلى رأسها الرعاية الصحية.

كان الإقصاء دومًا جزءًا أساسيًا من العقيدة الصهيونية (أي الوطنية اليهودية)، والتي طمحت لإنشاء دولة وطنية يهودية في بلاد يقطنها سكان آخرون. لقد خلق الهوس بضمان الأغلبية اليهودية جسمين جيوسياسيين جديدين آنذاك: الضفة الغربية وقطاع غزة. رُسمت "حدودهما"، والمعروفة بالخط الأخضر، تمامًا حول السكان المراد إقصائهم من الدولة اليهودية الوليدة، فكان الإقصاء الأول. عام 1967، جرى "احتلال" هاتين القطعتين من الأرض مما خلق واقعًا إقصائيًا مضاعفًا.

كان الإقصاء دومًا جزءًا أساسيًا من العقيدة الصهيونية (أي الوطنية اليهودية)، والتي طمحت لإنشاء دولة وطنية يهودية في بلاد يقطنها سكان آخرون

عمليًا، باتت كامل فلسطين الانتدابية اليوم دولة لـ "إسرائيل"، من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، باستثناء بعض البقع المفتتة الصغيرة في قلب البلاد (مناطق "أ" في الضفة الغربية)، ومستطيل صغير في خاصرتها الغربية (قطاع غزة)، حيث يعيش سكان لا يحملون مواطنة البلاد، وخاضعون للحكم العسكري. اليوم، وفي تلك المناطق الصغيرة المفتتة، والتي تشكل أقل من 10% من كامل البلاد، يسود وهم "السلطة الفلسطينية" منذ قرابة ثلاثة عقود، رافضًا التحلل.

اقرأ/ي أيضًا: هل أخطأنا بحق عمالنا داخل الخط الأخضر؟

كفلسطيني يسكن الضفة الغربية، تحت إدارة مباشرة من سلطة حكم ذاتي محدودة السلطة، وحكم عسكري إسرائيلي غير مباشر، أشعر بقلق شديد على سكان المكان نتيجة لتفشي فايروس كورونا المستجد. نواجه جميعًا حقيقة مرّة، ألا وهي الاعتماد على الجهاز الصحي المتواضع للسلطة الفلسطينية في مواجهة وباء كهذا، دون أي خيارات أخرى. لقد بات الوهم الذي رفضت الاعتراف به طوال حياتي -سياسيًا- الملجأ الوحيد لأي مصاب بفيروس كورونا، وأولهم أنا.

يا له من مصير ضبابي قاس. نظريًا، على سلطات الاستعمار أن تتحمل مسؤوليات المجتمع المستعمَر، وعلى رأسها الرعاية الصحية. نظرًا للحالة الإدارية الفلسطينية-الإسرائيلية المعقدة التي حاولت الإشارة إليها للتو، لا تسري تلك القاعدة في بلادنا.

بالاطلاع على مختلف الإحصائيات لإصابات فايروس كورونا عبر الإنترنت، نجد أن فلسطين و"إسرائيل" مدرجتان كدولتين منفصلتين. باطلاعنا على خارطة البلاد التي تظهر الأماكن الدقيقة للحالات المصابة، نرى بسهولة كيف تقع فلسطين و"إسرائيل" في قلب بعضهما البعض.

بحسب التصريحات الرسمية، تواجه المناطق الفلسطينية بالضفة الغربية فايروس كورونا بـ120 جهاز تنفس. قبل أيام، صرح رئيس الوزراء أنه لا يدعم خيار حجر العمال العائدين من داخل الخط الأخضر في المدارس المغلقة، وذلك "لعدم قدرة الحكومة على تحمل نفقات الطعام الخاصة بهم خلال فترة الحجر"، مرجحًا خيار "إرسال العمال إلى بيوتهم وبين عائلاتهم". الأرقام والأمثلة التي تدل على محدودية قدرات السلطة الفلسطينية لا نهاية لها.

في الوضع الطبيعي، ترسل المستشفيات الفلسطينية العديد من الحالات الصعبة لنظيرتها الإسرائيلية، وتدفع لقاء تلك "الخدمة" أثمانًا باهظة. ما الذي نتوقعه من سلطة حكم ذاتي بقدرات متواضعة كهذه في مواجهة فايروس كورونا، والذي أعجز دولاً عظمى؟

في تصريحات غير رسمية، عبر رئيس نقابة الأطباء الفلسطينيين عن قلقه من التجهيزات والبروتوكولات المتبعة في وزارة الصحة. في حين، شارك مواطنون آخرون تجاربهم السيئة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، كنقص الطواقم الطبية في بعض المواقع، وآخرون تم نقلهم لمراكز الفحص بحافلات خاصة وضعت بها بعض المقاعد البلاستيكية. في الواقع، الفلسطينيون منغمسون بشدة في وهم السلطة الفلسطينية إلى درجة انتقادهم لها وكأنها حكومة حقيقية ذات "وزارات" فعلية!

ما الذي نتوقعه من سلطة حكم ذاتي بقدرات متواضعة كهذه في مواجهة فايروس كورونا، والذي أعجز دولاً عظمى؟

لا يهدف هذا المقال لتقييم الإجراءات المتخذة من قبل السلطة الفلسطينية محدودة الموارد والصلاحيات، والتي تبذل قصار جهدها، بل يرمي لتسليط الضوء على المشكلة الوجودية لهذا الجسم الإداري في ظل المنظومة الاستعمارية الاستيطانية  التي ما تزال قائمة.

اقرأ/ي أيضًا: الكرنتينا: تاريخ الحجر الصحي في فلسطين

كما بتنا نعلم جميعًا، تتطلب مواجهة فايروس كورونا سيطرة محكمة على حركة السكان، وإقفالاً فعالاً للجغرافيا. لا أعلم إلى أي مدى نجحت السلطة الفلسطينية في سد كامل الثغرات، نظرًا لملف العمال الفلسطينيين داخل الخط الأخضر الذين يصعب على السلطة تتبع حركتهم، كونها لا تملك سيطرة على الحواجز الإسرائيلية ولا في مناطق "ج" بالضفة الغربية. يوم التاسع عشر من مارس/آذار الجاري، اقتحم الجيش الإسرائيلي مخيم الدهيشة الواقع في قلب مدينة بيت لحم لتنفيذ اعتقالات، والتي يفترض أنها مقفلة بالكامل من قبل القوات المختلفة التابعة للسلطة الفلسطينية. لم ترد أي أنباء عن محاولة التصدي لتلك القوات المقتحمة.

في الحقيقة، لم تنجح السلطة الفلسطينية يومًا في تطوير أي شكل من أشكال استدامتها، الأمنية منها والإدارية، ولا حتى أي شكل من أشكال الاكتفاء الذاتي للمناطق التي "تحكمها" منذ ولادتها عام 1994. هذا ليس غريبًا، بالنظر إلى الرؤية الإسرائيلية-الغربية من وراء إيجاد جسم كهذا، لا تتجاوز وظيفته إدارة شؤون محدودة للمجتمع المستعمَر المقصى عبر أموال تتدفق من الخارج بشكل دوري.

لم تسهم حكومات العرب أو الغرب يومًا بشكل فعال في تفكيك الاستعمار، أو رفع الاحتلال عن الضفة الغربية  وقطاع غزة، على الأقل، بل استمرت بتقديم الأموال لتغطية النفقات التشغيلية للسلطة وبناء بعض المشاريع الخدماتية هنا وهناك. لم تسهم تلك الاستراتيجية إلا بشيء واحد: الإطالة من أجَل الحالة السياسية المؤقتة للفلسطينيين وجعلها دائمة.

بالرغم من ذلك كله، لم تبدِ السلطة الفلسطينية يومًا نية حقيقية لتفكيك نفسها وإعادة أعباء السكان الثقيلة، وعلى رأسها الرعاية الصحية، للمستعمر الإسرائيلي. تواصل السلطة تقديم نموذج استعماري رخيص التكلفة للإسرائيليين، قليل الأعباء، بل ويدار عن بعد. لقد كانت "صفقة القرن" الأخيرة بمثابة مصادقة حاسمة لجدالي هذا، إذ كشفت عن المستقبل المخطط للسلطة الفلسطينية والأراضي المفتتة التي تديرها.

تواصل السلطة تقديم نموذج استعماري رخيص التكلفة للإسرائيليين، قليل الأعباء، بل ويدار عن بعد

من جهتها، تواصل العقلية الإسرائيلية نهجها الإقصائي. مؤخرًا، ألقت السلطات الإسرائيلية العمال الفلسطينيين على حواجز الضفة الغربية للسلطة الفلسطينية بعض ظهور أعراض إصابتهم بفايروس كورونا. بالرغم من أنهم مشمولون بالرعاية الطبية الإسرائيلية في حال امتلاكهم لتصاريح "قانونية" وعبورهم عبر نقاط التفتيش المحددة.

اقرأ/ي أيضًا: هل سيطيح كورونا بالنظام الاقتصادي الحر؟

لم يسلم الفلسطينيون الحاملون للمواطنة الإسرائيلية أيضًا، والذين نجوا  من الإقصاء عام 1966 بعد رفع الحكم العسكري عنهم، إذ اشتكوا من ممارسات تمييزية من قبل الجهاز الصحي الإسرائيلي. لمَ العجب، خاصة بعد تصريح بنيامين نتنياهو العام الماضي أن "إسرائيل ليست دولة لكل مواطنيها. إنها الوطن القومي لليهود وحدهم"؟!

عند التطرق لنهج الإقصاء، فإن غزة، التي باتت "قطاعًا"، هي أحد أسوأ الأمثلة في العالم، إذ يشكل اللاجئون قرابة 64% من سكانها. بغض النظر عن الأسباب، تقبع غزة تحت حصار عسكري إسرائيلي صارم منذ عام 2007. العام الماضي، توقعت الأمم المتحدة أن يصبح قطاع غزة مكانًا غير صالح للعيش الآدمي بحلول 2020، فكيف نتوقع أن تتعامل غزة مع فايروس كورونا؟

تزامنًا مع ذلك كله، تواصل السلطات الإسرائيلية ممارساتها الاستعمارية بالرغم من أزمة فايروس كورونا في البلاد. منتصف الشهر الجاري، أغلقت السلطات الإسرائيلية حواجز الخط الأخضر أمام فلسطينيي الضفة الغربية فقط، فيما أبقت على حرية حركة المواطنين الإسرائيليين عبر حواجزهم المنفصلة. كما فرضت حصارًا عسكريًا شاملا على مدينة بيت لحم دون نظيراتها الإسرائيلية، بالرغم من الفرق الهائل في عدد المصابين الفلسطينيين مقارنة بالإسرائيليين. الاقتحامات الليلية، بناء الجدران حول القدس، التوسع الاستيطاني، كلها ممارسات لم تتوقف في النصف الثاني من شهر آذار/مارس بالرغم من أزمة كورونا.

لا تفرق كورونا بين فلسطيني وإسرائيلي، لا شك في ذلك، لكن "إسرائيل" تفعل ذلك. لم يكن مقالي هذا محاولة لتسييس كل شيء، لكن في الواقع، جميع الملفات مسيسة -بشكل أو بآخر- في هذه البلاد، بل ومتأثرة بالمنظومة الاستعمارية السائدة بدرجة أساسية. يعطينا الوباء السائد منظورًا جديدًا لتقييم الحالة السياسية، لا أكثر.

نتطلع جميعًا للخروج من هذا الكابوس الذي يضرب العالم. كفلسطيني يعيش في الضفة الغربية، معارض للمنظومة الاستعمارية الاستيطانية الإسرائيلية، ولرد الفعل الفلسطيني الوطني لها (نموذج سلطة الحكم الذاتي)، أشعر بقلق شديد إزاء كون السكان هنا ضحية محتملة للعقلية الإقصائية الإسرائيلية من جهة، وللمحاولات الفاشلة المستمرة للسلطة الفلسطينية لإثبات نفسها كدولة حقيقية، من جهة أخرى.


اقرأ/ي أيضًا:

ما هو سر قوة الفلسطينيين في مكافحة فايروس كورونا

تأملات في زمن الطوارئ