30-مايو-2020

صورة توضيحية - gettyimages

تناقلت العرب عبر أجيالها لمئات السنين سيرة التغريبة الهلالية، في وقتٍ زحف فيه الفارس أبو زيدٍ الهلالي متزعمًا إحدى قبائل الجزيرة صوب تونسَ الخضراء بحثًا عن الماءِ والكلأ، حيث اصطدمت بالحاكم الزناتي الذي أسرها ثم ما لبثت أن هربت منه وحاربته وانتصرت عليه.

يخبرنا الأرشيف البشري أن الأوبئة ما أتت إلا خرابًا ودمارًا. لكن يبدو أن كاتبَ النصِ يحذوه أملٌ بأن تكون كورونا "تذكرةً لمن يخشى"

تحدثت القصص والروايات عن بطولات أبي زيدٍ ورفيقيه يحيى ويونس، وكتب فيهم من كتب وتغنى بهم من تغنى، لكن ما التصق واستمر في الذاكرة الشعبية هو عودة النبات والرخاء إلى أرض بني هلال بعد فوزهم، لتستمر العرب، قيسيةً ويمنية وعاربةً ومستعربة، بتداول مثلها الشهير "كأنك يا أبو زيد ما غزيت".

اقرأ/ي أيضًا: فيروس يمحو الواقع

استُخدمت المقولة على مر الزمان لوصف من هَمَّ بأمرٍ وما أن أنهاه حتى اكتشف قلة أهميةِ صنيعه، وبعبارةٍ أخرى محليةٍ مُلخِصة: "يا حيانة تعبك وشقاك".

في أيامنا هذه يتناوب المحللون السياسيون والاقتصاديون (أو من ادعى الانتساب إليهم) على استنباط "الأفكار" و"الأسباب الخفية" وراء جائحة كورونا، مطلقين لعقولهم (وربما لمخيلاتهم) عنان السماء، جاهدين ومجتهدين (وحالمين) بالنظرية الأكثر إقناعًا (وتأثيرًا).

بعيدًا عن "حكايا" الحروب الاقتصادية والتصنيع المَرضي والتجسس التكنولوجي ومؤامرات الغرب وإبعاد المسلمين عن مساجدهم والمظلومين عن قضاياهم، يبزغ نورٌ من بين ظُلمات كورونا وطبقات "المآسي الكوكبية" على ما تبقى من أرض فلسطين التاريخية في شأنها المحلي الداخلي.

يخبرنا الأرشيف البشري أن الأوبئة ما أتت إلا خرابًا ودمارًا. لكن يبدو أن كاتبَ النصِ يحذوه أملٌ (ويسأل الله أن لا يكون وحده من تراوده ذات الأقوال) بأن تكون كورونا "تذكرةً لمن يخشى" و"رُبَّ ضارةٍ نافعة" وفرصةً لإصلاح ما يُتمنى ويمكن إصلاحه، وأن نخرج بفوائد بعيدة المدى وعبرة لمن تدبر، ولا نعود إلى سيرتنا الأولى وقت رحيلها؛ كي لا تقول لنا: "كأنك يا أبو زيد ما غزيت".

تملؤنا التخبُطات المختلفة، ولدينا من الفجوات والنواقص ما يكفينا لدفعنا نحو إيقاظ ضميرنا الجماعي للعمل والتغيير.

تملؤنا التخبُطات المختلفة، ولدينا من الفجوات والنواقص ما يكفينا لدفعنا نحو إيقاظ ضميرنا الجماعي للعمل والتغيير

بكورونا ودونها لدينا ملفاتٌ كثيرة بأيّ تصنيفٍ وتبويب يريده أيٌ كان، ولهذا يغمرنا الأمل بأن تصبح الجائحة والطوارئ تبصرةً وتعجيلاً في حلها؛ فإننا إن كنّا من السالمين غير المُعذبين بآلاف الضحايا والإغلاقات المطولة، لنحمد الله ونسعى لاستقاء العبر والاستعداد لأي مجهولٍ مستقبلي، وباءٌ كانَ أم شيئًا آخر، فـ"ليست في كل مرة تسلم الجرة".

اقرأ/ي أيضًا: رسالة خفية يحملها فايروس كورونا للبشرية

المال عصب العالم ومحركه ومدبر خطواته في وضعه الهادئ الطبيعي قبل التوتر الـ"كوروني"، ومع وفوده إلينا ازداد المحرك هديرًا ودويًا.

في الحالة الفلسطينية لطالما تحدثت وسائلٌ إعلامية ومؤسساتُ مجتمعٍ مدني عن "سوء توزيع" للأموال المندرجة ضمن الموازنة العامة للسلطة الوطنية الفلسطينية، حيث أن ثلثها يذهب لقطاع الأمن (يشمل الرواتب والتكاليف الأخرى)، وثلثين لباقي الجهات بكل ما حملت واحتوت.

على مدار الأشهر الأخيرة رأينا (ولا زلنا) الدول التي ضُربت بقوة بفيروس كورونا، وسمعنا من قصص المعاناة في المستشفيات ونقص الأَسرة وأجهزة التنفس والإنعاش ما تقشعر له الأبدان، وذلك في بلدانٍ تُعتبر متطورة مقارنةً بباقي العالم وبناه التحتية.

وإن كان في ذلك "تفكرٌ وتدبر" فقطاع الصحة علينا وضعه على رأس سلم أولوياتنا المالية، من مبانٍ علاجية وأجهزة وقدراتٍ طبية، ولنضف على ذلك مساعينا السياسية للانفكاك التام عن الاحتلال بكل ارتباطاتنا به بما فيها الصحية.

عبر وسائل التواصل الاجتماعي قرأنا عن أوضاعٍ وقصصٍ لمواطنين جلسوا في بيوتهم خلال حالة الطوارئ دون عملٍ ولا أموال. مِن هؤلاء مَن يُطلق عليهم "عمال المياومة" أو من يملكون مشاريعًا صغيرة خاصة أو الذين آثروا البقاء وعدم الذهاب لعملهم في الداخل المحتل.

أطلقت الحكومة الفلسطينية مشروع "وقفة عز"، واتفقت مع القطاع الخاص على استمرار دفعه النصف على الأقل من رواتب موظفيه. لكن يبدو أن الإجراءات لم تكن كافية أو "مقنعة" لأسبابٍ عديدة، كعدم كفاية المبلغ المخصص لكل فرد تنطبق عليه مواصفات المشروع.

تتحدث الحكومة عن حالة مادية صعبة ترافقت مع حالة الطوارئ الوبائية وعن اقتطاع الاحتلال من المقاصة.

في هكذا ظروف تعود الذاكرة إلى الماضي عندما أُوقف قانون الضمان الاجتماعي بعد احتجاجات جماهيرية على صيغته لا مبدئه، لعلنا يجب أن نعود لطرح الفكرة مع بنودٍ لا غبار عليها كي لا نقع في ذات الخوف والجزع مرةً أخرى، وأننا ما دمنا قررنا إنهاء تفاهماتنا مع الاحتلال فأموالنا "الجُمركية" المسروقة علينا أن نجد لها حلاً.

في تسجيلٍ تلفازي لرئيسٍ سابقٍ لإحدى الدول، قال إن عليهم أن يحققوا الاكتفاء الذاتي بأن تُنتج الدولة طعامها ودواءها وسلاحها. في عصر كورونا يقفز "التسجيل" إلى المشهد في ظل تخوفٍ أن تصرخ الأقوام: "اللهم نفسي نفسي"، وأن تتوقف عن تصدير (أو وَهب) ما تحتاجه للبقاء صامدةً، وبما أننا نعتمد على المنح والمساعدات الخارجية فعلينا مراجعة حال أمرنا.

تُساق بيننا عبارةٌ اسمها "يجعل لا حدا حوش"، تبدأ من شراء "لفة شاورما" ولا تنتهي بحمل أغلى هاتفٍ محمول أو تقسيط آخر طرازٍ للسيارات الفخمة، وحين حديث أصحاب هذه المقتنيات عن أحوالهم المادية "بقطعوا إيدهم وبشحدوا عليها".

نسأل أن تعلمنا كورونا جميعًا توفيرَ مبلغٍ بسيطٍ نضعه جانبًا ليكفينا شر الدهر وسوء المنقلب ولو لبضعة أشهر، وأن تحل حكمة "خبئ قرشك الأبيض ليومك الأسود" مكان "اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب".

نسأل أن تعلمنا كورونا جميعًا توفيرَ مبلغٍ بسيطٍ نضعه جانبًا ليكفينا شر الدهر وسوء المنقلب ولو لبضعة أشهر

هذا حال المال والاقتصاد، لكن كورونا كشفت عيوبًا أخرى، وليس في هذا ما "يعيب" إن كنّا من المعتبرين. منذ اللحظات الأولى قُرر أن تذهب الجامعات إلى التعليم الإلكتروني، تجربةٌ جعلتهم مصدومين (أو هكذا ظهر) وبادئين بنظامٍ من الصفر لـ"إنقاذ الفصل الدراسي"، وإن كان كلام بعضهم يغاير ذلك.

أما وقد بدأت الحياة إلى العودة (أو هذا ما يبدو) ربما علينا أن نتعلم من التعليم الإلكتروني شيئًا أو أشياء، أن نحسنه لخدمة الطلاب والأكاديميين بعد عودة المياه إلى مجاريها، وأن ندرب ونعلم الجيل القادم (من معلمين وتلامذة) على تطويعه لخدمتهم ودمجه مع التعليم الوجاهي.

وعلى ذكر مفردة "الإلكتروني"، هل فكرنا مسبقًا بالتطبيق الفعلي والشامل للمعاملات الإلكترونية؟

تعلمنا أن "درهم وقاية خيرٌ من قنطار علاج"، لكننا يُشتهر بيننا صعوبة الحصول على إجازةٍ مرضية من العمل أو إقناع ذوي الطالب المدرسي أن يبقوه في البيت، فالإجازة والغياب من أجل "الإنفلونزا" "ترفٌ ودلع"، وفي حالة ارتداء الكمامة الطبية يصبح صاحبها مدعاةً للسخرية والنظرات الضاحكة، أما نقل العدوى للزملاء (موظفين وطلاب) فقسمةٌ ونصيب.

ينجو الإنسان والمجتمع والدولة والبشرية من مواقف ومشاكل ومصاعب وأزمات وحروب وأوبئة بل ومن قصفٍ نووي، لكن بعد الحمد والشكر على ذلك والتقاط نفسٍ عميق عليهم جميعًا التعب على تغيير الواقع لتجميل حياتهم اليومية ولأجل المستقبل المجهول كي تقل قتامته. أما من سيبقى على حاله منتظرًا جلاء الغُمة ليعود إلى أيامه كما كانت، فلا نجاة له، "وما أنت بمسمعٍ من في القبور".


اقرأ/ي أيضًا: 

هل سيطيح كورونا بالنظام الاقتصادي الحر؟

تأملات في زمن الطوارئ