15-مايو-2020

ثلاث صيحات من زامور سيارتنا -التي كنت وأصدقاء ثلاثة لي نجوب بها شوارع بلدة سلواد في رام الله- تختصر تحية متبادلة مع صديقٍ آخر يَعُدُّ الدقائق وهو يتجوَّل مع زوجته بانتظار مولوده الجديد بسام.

لحقت تلك الزوامير الثلاث، مكالمة هاتفية عبّر صديقي خلالها عن شغف عميق يدق في قلبه بانتظار مولوده، قائلاً: "عضِّة كوساية ويأتي لنا"، واستخدامه قول "عضة كوساية" هذا أراد أن يفسر لنا قولاً آخر يعني به "هانت.. ما ظل شيء لقدوم المولود".

"أبو بسام"، نداءٌ سيثبت في الأيام القليلة القادمة -أو ربما عند نشر هذا المقال- على صديقي سابق الذكر، إذ كان يتابع "بهوس" منذ اليوم الأول الذي زف لنا خبر حمل زوجته، أخبار أقرانه ممن شاء الواهب أن تحمل زوجاتهم، أو من حملن ووضعن حملهنَّ، فهو يطلق مع دخول أي شخص من هؤلاء إلى متجره عدة أسئلة: "أين أنجبت زوجتك؟ وكيف تعاملت الطواقم الطبية معها ومع البيبي؟ المشفى الفلاني أنظف أم الآخر؟".

أسئلةٌ كهذه وأكثر كانت هوس "أبو بسام" المبرر، ليس فقط لأن مولوده القادم هو البكر، إنما بسبب الظروف العصيبة التي تدق أرجاء المعمورة، وما يتشكل على الأم والجنين من حذر وعناية مضاعفة للوقاية من خطر كورونا.. وضمان سلامتهما.

***

ومن باب المصادفة الذي دخل منه الأمل بكلتا قدميه وابتسامته العريضة، وانتشرت أخبار زيارته في مواقع الفضاء الإلكتروني وعلى مائدة الفطور الرمضاني بين الأهالي، يبشر فلسطين بقدوم أول مولود من أم من محافظة الخليل مصابة بفايروس كورونا.

كان المولود تيم وراء تلك الدقة على الباب يحمل لنا الأمل في تفتح عيونه، ويروي حكاية الفلسطيني الذي يحارب كل مرض وخطر؛ لينتزع فرحته ويبصر النور مخترقًا جدران العتمة المدقعة.

 وفيما سيرضع تيم من أمه حليبًا، إلا أنه وبقواه المتواضعة سيمدّها بصبرِ وعزم مثل تلك الراحة التي مدّها للكوادر الطبية التي أشرفت عليه بعد كل العناء والعمل المتواصل في الخفاء.

"الحمد لله"، رددت شقيقتي هذه الكلمة عدة مرات وهي تنظر إلى مولودها الأول بعد ستة أعوام من الانتظار، وهي تقف أمامه عقب عودته إلى بيتنا من الحاضنة في مجمع فلسطين الطبي، تبعت ذلك بخطوات ثقيلة على الأرض وهي تعود أدراجها إلى السرير.

***

بصوت خافت، طلبت شقيقتي إحضار مولودها البكر "محمد" الذي لم يتجاوز عمره يومًا ونصف. ربما أرادت أن تمرجحه بحرص كأي أمٍ في أحضانها، تهزهزه وتربت عليه تارة وتمسح على جبينه ووجه تارة أخرى، ثم تغني له"يلا تنام يلا تنام.. نضحك على محمد تينام".

حملتُ بين يديَّ مولودنا الجديد إلى شقيقتي دون مقدرتي التعرف على ملامح وجهه، الأمر الذي بدد استطاعتي على إطلاق التقديرات أنه يشبهنا نحن أخواله أم يشبه أعمامه.. حملتُه إليها بلفة بيضاء كقلبه وعمله.

احتضنت شقيقتي مولودها وبدلاً من أن تغني له أو تهزهزه، أو تنتظر منه البكاء المتواصل أو الضحكات البريئة الدافئة، كان محمد نائمًا نومة أبدية.. لم يتحرك مطلقًا، وأطلق جناحيه طيرًا في الجنة، لأن جسمه الذي خرج للحياة -في أول الشهر السابع- لم يقوَ على الاستمرار في الحياة.

لمحمد وأمثاله الرحمة.. والعزاء والصبر لشقيقتي وزوجها وأمثالهما.

الدعاء لبسام وأطفال فلسطين كافة بصحة وحياة جميلة، وعسى الأمل أن لا يفارق أحدًا، ويدخل على كل بيت كما دخل من دقة تيم.


اقرأ/ي أيضًا: 

عن أصص الورد وعجينة الفلافل والبروفيسور والإيجاز

إلى أي ساعة دوام الملائكة؟

دلالات: