20-مايو-2017

تصوير: أحمد الكباريتي وعبد الرحمن الخطيب

إذا ما كُنت فلسطينيًا تجاوز عُمره الـ25، وقد سافرت كثيرًا عبر منفذيْ فلسطين الدوليين الوحيدين (الكرامة ورفح) الواصلين إلى الأردن ومصر أو اصطفَفْت لساعاتٍ أمام حاجزٍ لجنودٍ إسرائيليين بين مدن الضفة الغربية أو في قطاع غزة؛ فحتمًا ستتذكر "سفينة نوح" ذات اللون البرتقالي، كنايةً عن قِدمها وطولها اللافت.

مرسيدس طراز 240، أحيلت إلى التقاعد في الضفة، وقريبًا في غزة، وتحوّل بعضها إلى غرف فندقية للقطط والكلاب النّعِسَة

إنّها سيارة المرسيدس من طراز 240 أو كما يُسميها رُكّابها القدامى بـ"سفينة نوح" التي أُثخنت في الزمن الماضي بحقائب المسافرين بارتفاع نحو مترين على سقفها، وأكثر من 15 راكبًا على مقاعدها المُقوّسة خلال رحلاتهم عبر هذيْن المنفذين أو تلك الحواجز اللعينة.

اقرأ/ي أيضًا: "حنتور" غزة.. لأنهم يحبون الحياة

فحتى وقتٍ قريب، كان لون تلك السيارات الطويلة أول ما يستقبل هؤلاء المسافرين من المنفذين، باعتبار أنهم وصلوا إلى الوطن بعد الانتهاء من إجراءات سفر طويلة لدى السلطات الأردنية والإسرائيلية والمصرية.

أمّا اليوم، فإذا ما فكر أحد الغزيين مثلًا بالذهاب إلى المحافظات الوسطى أو الجنوبية من القطاع، فإنه لن يُفكر مطلقًا بالركوب في تلك السيارات المُهترئة التي صنعت خلال الفترة من 1976 – 1986 وسَيصُم أذنيه عن نداءات سائقي تلك المرسيدس الباحثين عن الركاب، وسيفضّل أخرى من الطراز الحديث ذات الأربعة رُكاب.

فعلى الأقل، قد يحظى هذا الراكب بانتعاشٍ من جهاز التكييف في أيّام الصيف الحارة، عدا عن إمكانية انتظار ثلاثة رُكابِ آخرين سرعان ما يتوفرون للانطلاق إلى وُجهتهم، أمّا في مدن الضفة فلن تستمع لنداءات أولئك السائقين أصلًا؛ لأنّ تلك "السفينة" تلاشت عن السير هناك وتحولت إلى مرْقد للقطط الضالة في القرى.

في موقف المحافظات المركزي القريب من مستشفى الشفاء وسط غزة، يسْتظل سليم أبو حسنين في "سفينته" بعدما فقد الأمل في إقناع أي راكب بركوب "سفينته". ويقول مُكتئبًا: "الناس يعتقدون أن هذه السيارات تُسبب لهم حساسيةً في الجلد، رغم أنها عايشت معهم سنوات من صبرهم ونضالهم وشكّلت جزءًا من ذلك التاريخ".

السائق سليم أبو حسنين

ويضيف أبو حسنين (59 عامًا): "كيف نسي هؤلاء إجبارهم على الوقوف لأكثر من 6 ساعات على حاجزي الحِكر والمطاحن اللذين كانا يقطعان أوصال القطاع طوال الليل ومنع نزولهم من السيارات؟ لقد اضطروا إلى المبيت في هذه السيارات.. كانت سياراتنا قلعة حديدية تحميهم رصاص طيش الجنود، فكانت فندقًا صغيرًا أيضًا، وكُنّا جميعًا بانتظار كلمة "بُو" العِبريّة من الجندي على الحاجز إيذانًا بالمرور". كان ذلك خلال انتفاضة الأقصى وحتى الانسحاب من القطاع في 2005.

"كانت هذه السيارات جزءًا من الصورة السياسية في نقل معاناة الناس على الحواجز".

أمّا صديق سليم في المهنة الشاقة عيسى الخطيب (60 عامًا)، فيعتقد أن على عملاق صناعة المحركات الألمانية -"مرسيدس"- مكافأتهم على طول سنوات عملهم، حيث عمل عيسى لـ36 سنةً متواصلة على "سفينته". "كانت هذه السيارات جزءًا من الصورة السياسية في نقل معاناة الناس على الحواجز".

ويستذكر عيسى حينما كانت تمتلئ سيارته بـ15 راكبًا وحقائب متخمة على السقف وسماع خشونة ملامسة إطارات السيارة لجسمها نظرًا للوزن الهائل، من أجل تمكين أكبر عددٍ من المسافرين من الانتقال دُفعةً واحدة إلى الجانب الإسرائيلي المصري من معبر رفح.

السائق عيسى الخطيب

ولدى مقابلة "ألترا فلسطين" لعيسى، كان سائقو المركبات الحديثة من الشَبان الصغار يُجيدون فن "مغازلة" الركاب و"اختطافهم" من أعين سائقي "السُفن" البرتقالية، وسط غضبٍ لا يُطفئه سوى إشعالهم لفافات من التبغ العربي.

اقرأ/ي أيضًا: يستطيع امتلاك مليونيّ شيكل ويفضّل بيع الذُّرة

ولرؤية الوضع بالضفة، فإن عبد الناصر القواسمي، صاحب مكتب تاكسي الناصر برام الله والذي بالطبع لا يملك مثل تلك "السُفن" لمنع ترخيصها لدى وزارة النقل، يرى أن المرسيدس الـ 240 كانت عرباتٍ مُصفحة مُقارنةً بمثيلتها الحديثة "الأقرب إلى البسكويت"، كما أنّها كانت أكثر أمانًا إذا ما فقد أحدهم شيئًا فيها خلال رحلته، باعتبار أن سائقيها معروفون، ويعرفون بعضهم أيضًا، عدا عن أنها كانت تُوفر جوًا ودودًا من التعارف بين الركاب في رحلاتهم بين المحافظات.

حتى أوائل التسعينات، كان يُقال إنّ العروس فُلانة زُفّت في المرسيدس الطويلة

أحمد أبو الهيجا، من جنين هو الآخر يستذكر تلك "السُفن" حينما كانت كما قال: "رمزًا ولونًا وطنيًا لمعبر الكرامة، كما أنّها كانت تمثل هيبةً لموكب زفاف العرائس، ويُقال إن العروس فلانة زُفّت بالمرسيدس الطويلة.. كان ذلك حتى أوائل التسعينات".

واليوم، يعتقد السائقون والركّاب في غزة أن سيارات "سفينة نوح" التي لا يتجاوز عددها الـ150 سيارة فقط –وفقًا للسائقين في غزة- رُدّت إلى "أرذل العمر" بعد أن تنكّر لها الفلسطينيون ولم تعد تجتذب الركّاب إلا قليلًا، بعد أن أحيلت إلى التقاعد في الضفة، وقريبًا في غزة، وتحوّل بعضها إلى غرف فندقية للقطط والكلاب النّعِسَة.


اقرأ/ي أيضًا:

"سيارات تأجير" غير صالحة للسير على الطرقات

"سندريلا" لإسعاد عرسان غزة!

متلازمة "الجيب" الفلسطينية